(في صيف عام 1983، في أول زيارة لي لمصر، قمت بزيارة الشاعر المصري الثوري أحمد فؤاد نجم في بيته في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة بعد بحث طويل وأسئلة كثيرة والاستعانة بصبي دليل، وجلسنا مع الشاعر ثلاث ساعات نتحدث، وبعد عودتي الى البلاد كتبت خاطرة من أجواء هذا اللقاء غير العادي، نشرت في صحيفة "الاتحاد" يوم 15/8/1983 واليوم وبعد رحيل الشاعر غير العادي أحمد فؤاد نجم لم أجد أفضل من تلك الخاطرة أقولها في الشاعر بعد وفاته الأسبوع الماضي.)
سرنا من زقاق إلى زقاق. من منعطف إلى منعطف. من زاوية إلى أخرى حتى وصلنا أمام بوابة العمارة (ندعوها العمارة مجازا). أحجار قديمة مصفوفة فوق بعضها البعض. باب خشبي قديم دفعه الصبي أمامنا. خروف يستقبلنا في ساحة العمارة (مساحتها 2 م مربع) بثغائه. أمامه دلو ماء وبعض العشب اليابس ورائحة تشبه رائحة الاسطبل. بدأنا في صعود الدرج القديم الضيق. بعد دور أو دورين لم نعد نرى أمامنا شيئا. ظلام دامس، كدت أهاوى نتيجة التعثر.أما الصبي فصعد أمامنا بمهارة وهو يوجه لنا التعليمات وسط الظلام. واصلنا الصعود ببطء وحذر إلى أن أطل علينا الفضاء بعض الشيء. أطلت علينا امرأة خلف أحد الأبواب، فسألناها عن مسكن الشاعر فأخبرتنا بأنه يسكن الشقة التي تحتنا. شقة؟ هل هذه يسمونها شقق؟! ربما.. فنحن لم ندخلها بعد. نزلنا الدور.
دُم دُم دُم، ضرب الصبي بيده على الباب. صمت، مرة أخرى ولا من مجيب، الصبي ينادي على الشاعر.صوت من الداخل يأتينا وكأنه من عالم آخر: إدفع! دفع الصبي الباب. دخلنا الشقة! غرفة صغيرة أشبه بغرف الحمام المعروفة لنا وهي عبارة عن غرفة نوم وصالون وطعام واستقبال. بجوارها عغرفة أخرى لا بد وأنها تستعمل مطبخا وحماما ومنافع!
الغرفة مظلمة – رغم أن الوقت ظهر- وجسد ممدد على السرير الوحيد الموجود فيها. شعرت باختناق شديد وبعدم القدرة على الوقوف. أشرت لصديقي برغبتي في العودة والهرب من هذا الجحيم. الشخص الممدد بدأ يتململ في فراشه ناويا النهوض. سألنا عن هويتنا. عرفنا أنفسنا، نهض مرحبا بنا وفتح الشباك الوحيد. دخل الفضاء وبدأت ألتقط أنفاسي. صورة وجهه تتضح لنا. انتقل الى الغرفة الأخرى ليغسل وجهه. خرج الصبي دون أن نشكره ولم نشعر كيف خرج.
جلسنا على أريكتين صغيرتين. مائدة صغيرة أمامنا عليها أوراق اللعب. منفضة كبيرة مليئة بأعقاب السجائر وبجانبها علبة سجائر. جهاز تسجيل جديد. بعض الأشرطة متناثرة هنا وهناك. بعض الكتب والمجلات ملقية على الأرض باهمال غير مقصود. الجردان جرداء باهتة. أتبادل النظرات مع صديقي ونحن مشدوهين لا نفقه شيئا ولا نعي شيئا. حقا إنها المفاجأة الشديدة..
عاد الشاعر إلينا وهو يمسح وجهه. وجه ضعيف يميل الى الاصفرار.. شعرات ذقنه بارزة بحدة. شعر رأسه أجعد لأنه لم يتعود التسريح. قامة طويلة شامخة. ملأ الإناء ماء ووضعه على الغاز الصغير لإعداد الشاي. غسل ثلاث كؤوس ووضعها أمامنا. وابتدأ الحديث. حديث طويل استمر ثلاث ساعات لم نشعر كيف انقضت. في الحقيقة لم نتحدث بل هو تكلم. الشاعر يتكلم ونحن نستمع. نتابع كلامه الممتع المليء بالمعاناة والتجربة الغنية. بين الفينة والأخرى نوجه بعض الأسئلة، ننتهز فترة يلتقط فيها أنفاسه لنوجه ملاحظة معينة. الكلام يتناول الشعر والمعركة المفتعلة بين الشكل والمضمون ومفهومه الخاص للشعر وللثورة.. التي ستنطلق حتما من قلب الشعب وسيقودها الشعب.الثورة التي سيفجرها شعب صاحب تاريخ وحضارة. الصحافة.. الاذاعة.. المنابر الأدبية وسيطرة "أنصاف الموهوبين" كما دعاهم.
الانتفاضة الشعبية.. الاعتقالات.. السجن.. أناس أبرياء.. آباء يحملون زجاجات الحليب لأطفالهم.. البعض يغمى عليه.. البعض يبكي.. الشاعر يتنقل بينهم محاولا تخفيف الآلام عن المعتقلين فهو اعتاد على هذه الأجواء.. لقد أصبح من رواد السجون.. الفرق السياسية للمعتقلين تنغلق على نفسها وتجلس في حلقات منفردة رافضة الحوار والجلوس معا.. الشاعر يدق ناقوس الخطر امامهم.. يحذرهم من مغبة تصرفهم، بعد عمل أيام وليال ينجح في مهمته. الآلام تنهشه دون رحمة.. الأمراض تتكالب عليه وهو لا يرحم نفسه.. يسعل بشدة ولا يتوقف عن التدخين بكثرة..
ويرفض التوجه للطبيب. انه الصمود وخاصة أمام السجانين والمحققين.. يكبت آلامه أمامهم ويظهر ضعفه لئلا يستغلوا وضعه.. انه قوي أمامهم. يضحك ويحادثهم ويقف شامخا.. انه قوي دائما.
فلسطين.. الشعب.. المقاومة.. الحرب الفلسطينية- الاسرائيلية هي الحرب الجدية الأولى التي تمنى فيها اسرائيل بخسائر جسيمة..
الوقت يمر سريعا. لو أن عقارب الساعة تتوقف عن الدوران، وقتنا سينتهي. نوقف النقاش لنوجه آخر الأسئلة الشخصية التي تثير اهتمامنا. ننتهز آخر فرصة لنشبع فيها فضولنا. نحاول الاعتذار قبل توجيه الأسئلة الشخصية. يطرد ارتباكنا بكل بساطة ويفتح صدره ويديه وعينيه.. يجيب بكل محبة وتفهم وصراحة..
احتجنا قلما. أما هو فلا قلم لديه، لا قلم لدى الشاعر. كيف يكتب قصائده؟ أليس هذا غريبا ومدهشا!! نضطر للنزول الى الشارع الى الشعب. يغلق باب منزله. كدت اتعثر مجددا من شدة الظلمة ومن شدة الدهشة. في الأزقة تحيات للشاعر.. سلامات.. نظرات مستغربة.. لا تظنوا اننا رجال مخابرات.. بل نحن أصدقاء وحلفاء.. أخوة في الخندق الواحد. نعرج على أحد الأمكنة .. يسجل.. نصافحه.. ويصافحنا.. نودعه.. نظراه غريبة.. نظراته قريبة تدخل أعماقنا تشدنا الى بعض.. نتبادل القبلات على أمل اللقاء. لكن هل سنلتقي ثانية بالشاعر؟!
أجل سنلتقي ثانية وثالثة وعشرات المرات إن لم يكن عمليا وواقعيا فبالفكر.. بالدرب.. بالشعر حتما سنلتقي.. ومع أغاني الحب والحياة سنلتقي.. سنلتقي أيها الشاعر!
(شفاعمرو/ الجليل)
[email protected]
أضف تعليق