من أين أستمد قوّتي اليوم لأواجه تلك الشقراء الصغيرة التي تقف هناك على حاجز"قلنديا"؟ على رأس سبابتها مفتاحُ نهارك؛ إن هي شاءت يسَّرت، وإن كان ليلها حطامًا فالبقيّة في نهارك.
يستنزفني هذا الروتين ويرهق إنسانيّتي. في كلّ مرّة أسافر من بيتي في القدس لمكتبي في رام الله، وبالعكس،عليَّ أن أعبر من هذا الحاجز. هو قطعة من جهنم وإفراز واقعٍ فرضته عنجهية محتلٍّ يغرق في بحرٍ من بارود. في هذه الأمكنة تريدنا إسرائيل أن نتصرّف كالخراف، فصرنا "أدجن من نمر"- كما في تلك القصّة، وأطوع من حمار. ونبقى نحن وجهًا لذلك الكوكب، وجندُ الاحتلال وجهه الآخر القاتم؛ مخلوقات بقامات كسيقان البامبوك لا أرض أسقتهم الحب، ولا صدر أرضعهم رائحة الزنبق، أنوفهم فوّهات بنادق.
أستنجد بخيالي، يسرع بي إلى محطتي التالية، قد تنسيني ذلَّ الطوابير. أشرع بترتيب فواصل لقائي مع مجموعة من الأسرى الإداريين الذين ينتظرون زيارتي في سجن "عوفر". أبتسم من قهر، فكيف لإسرائيل أن تعبث باللغة والجمال مرّةً على مرّة.
"عوفر"، يا إلهي، هو بالعربية "الخشف"، الظبي ابن الغزال، ذلك الذي صاحب الشعراء في ساعات حبهم والوَلَه، وعلى قفزاته طربت حروفهم ورقصت قصائدُ. مَن غير محتلّ مختال قادر على خصي الكلام واغتصاب اللغة؟ فهل قيل أغشُّ من محتل!.
وجدت نفسي أمام بوابة السجن، كأنني كنت تحت تأثير مخدّر، لم أتذكر كيف عبرت من الحاجز. كانت أمامي مجموعة من السيارات، وعلى يساري كذلك وخلفي. في كل ناحية تتدافع مركبات، كأنه يوم السياقة الأخير قبل القيامة. السائقون والسائقات متشابهون بعتمة وجوههم والتحديق صوب أصابع المجندات والجنود الذين يقفون كسيقان البامبوك بلا ملامح تذكر.
لم أستعد بقية المشهد، صوت ضابط السجن يرحِّب بقدومي، ويدعوني للدخول. في الطريق إلى غرفة الزيارة يدلي الضابط ببعض من آرائه في الأسرى الأمنيين. لم أُتفاجَأ حين عبّر عن احترامه الشديد لهم، لا سيّما لكبارهم. لقد اعترف أمامي أنه تعلّم الكثير من حكمتهم وصبرهم وطريقة مواجهتهم للحياة.
ربّما كان علي أن أشكره، لكنني لم أفعل. لقد انشغلت بتحيّة الأسيرين جمال الطويل ونبيل النتشة، اللذين أدخلا تمامًا في تلك اللحظة لغرفة الزيارة. جلسنا متقابلين، يفصل بيننا لوح زجاج سميك وقرار تعسفي من قائد جيش الاحتلال يبقيهما رهن الاعتقال الإداري لستة أشهر قابلة للتجديد.
أعرف جمالًا منذ أكثر من عشرةِ أعوام. أمضى معظمها سجينًا. لسنوات اعتقل بدون تهمة، بل لكونه مشبوهًا كناشط كبير في حركة "حماس". مثله عانى ابن الخليل نبيل النتشة، الذي صار السجن بيته، والبيت مكانًا للزيارات العابرة؛ هكذا بادرني نبيل بدعابة وبسمة ليؤكد أنه أمضى حوالي زهاء عشرة أعوام في السجن بدون تهمة محدّدة، بل بادعاء انه ناشط في حركة "حماس"، ويشكل خطورة على أمن المنطقة!.
"أي خطورة هذه التي يرجع تاريخها لأكثر من خمسة عشر عامًا مضت وأيُّ أمنٍ هذا؟"، أردف نبيل بما صار أقرب إلى الضحك وقال: "لقد قلت لضابط المخابرات "بكفيكو كذب، مش معقول أن أكون خطيرًا على أمنكم طيلة هذه السنوات وأن لا تستطيعوا إثبات ولو تهمة واحدة تدينونني بها! يكفي تجبّرًا .. يكفي ظلمًا! دعوني أعيش بين عائلتي وأولادي السبعة، فأنا إنسان مريض،أريد أن أحيا بإيماني وأعمالي. سجنكم لن يغيِّرنا ولن يحبّبنا باحتلالكم الذي كان بغيضًا وسيبقى".
كان الوجع ينقط بين البسمة وأختها. لم يشعراني به، لكنني معهما أنا منذ بداية الحكاية، وأعرف كيف يكون صهيل الجياد الأصيلة حنينًا، وكيف يتألَّم أسد بعيدًا عن ربعه.
مائة وستون فلسطينيًا، أخذوا في جنح ظلام من بيوتهم الدافئة، وسجنوا بدون تهمة ولا ذنب معرّف. بعضهم قضى أكثر من عامين، وما زال يجهل متى وكيف قد يأتي الفرج. بعضهم، مثل نبيل النتشة وجمال الطويل، لا يهنأ واحدهم ببضعة أشهر من حرية إلا وتطاله يد القهر مجددًا، فيعود سجينًا ينتظر في حالة من الترقّب القاتل.
لقد "بلغ السيل الزبى"، هكذا قرّر المعتقلون الإداريون في سجون الاحتلال الإسرائيلي. من الواضح أن ما تقوم به إسرائيل يستهدف فئات قيادية فلسطينية بغرض تحييد نشاطاتها وتأثيرها في أماكن سكناها. إنّها اعتقالات كيديّة سياسيّة لا شأن لها بما تدّعيه إسرائيل من مساسٍ محتمل بأمنها وبسلامة جمهورها.
إلى ذلك، فمصادرة حرّيات آلاف الفلسطينيين بدون تأمين حقهم بالدفاع عن أنفسهم من خلال محاكم نزيهة وفرصة معرفة التهم الموجهة إليهم وطبيعة الأدلة والبيّنات المؤسِّسَة لهذه التهم، كلّها ممارسات إسرائيلية جائرة مرفوضة.
لقد شرع المعتقلون الإداريون بتنفيذ برنامج نضالي كانت محطته الأولى مقاطعة المحاكم الإسرائيلية بشكل كامل. قبل يومين أعلنوا إضرابا عن الطعام ليوم واحد، ويعدّون الآن أنفسهم لإضراب ليومين في الأسبوع حتى نهاية العام الجاري، عندها سيجرون تقييمًا وبناءً عليه ينطلقون بخطواتهم التالية.
بهدوء الواثقين حمّلاني الرسالة لكل صاحب ضمير وقلب، مؤكّدين أن الأسرى الإداريين ماضون في مسيرتهم، بيدَ أنّهم بحاجة لكل مناصرة من أبناء ومؤسسات شعبهم ودعم من جميع أحرار العالم ومساندة ممن يستطيعون إليها سبيلا.
كانت برودة تلك الغرفة قد اختفت. اتفقنا على أن نلتقي لنضحك معًا مع قطيع من الغزلان يعرف نبيل أين ترعى وتحب. من شق في باب الغرفة، كان ذلك الضابط يراقب لقاءنا. من عينيه فرَّت دهشة وكأنها تشي أنه أحس من كان الحرّ الطليق، ومن كان السجين.
رافقني الضابط إلى البوابة. لم يتفوَّه بكلمة. عدت إلى سيّارتي، لا أبالي لأنني عرفت من أين أستمدُّ قوتي لمواجهة تلك الشقراء الصغيرة التي تقف كساق من البامبوك على حاجز قلنديا.
بخفة غزال وصلت الحاجز. طائرًا على جناح القصيدة وجدتني أتمتم: "أقول لصاحبي من أين جاء ابن الغزال؟/ يقول: جاء من السماء. لعلّه "يحيى"/ رزقت به ليؤنس وحشتي/ لا أم ترضعه فكنت الامَّ/ أسقيه حليب الشاة ممزوجًا بملعقة من العسل المعطّر/ ثم أحمله كغيمة عاشق في غابة البلّوط...."، أتمتم في وجه تلك المجنّدة التي لم تعرف كيف يكون "رجل وخَشَفٌ في الحديقةِ يلعبان معًا...".
[email protected]
أضف تعليق