في زمنٍ تتطاير فيه السهام من كل اتجاه، وتشتدّ فيه الفتن حتى يَحار العاقل أين يضع قدمه، لم تعد النجاة حظًا ولا مصادفة، بل صارت اختيارًا واعيًا وموقفًا محسوبًا. ومن أبلغ ما قيل في وصف هذا المعنى: كن بجوار الرامي تنجُ.
فالإنسان في هذه الحياة ليس معزولًا عن الخطر، ولا محصّنًا بذاته، مهما بلغ علمه أو قوّته. السهام كثيرة: شهوات تجرّ، وشبهات تضلّ، وضغوط تضعف، وأصوات تزيّن الباطل وتلبسه ثوب الحق. وفي وسط هذا المشهد المربك، لا ينجو من يقف وحده في العراء، بل من أحسن اختيار موقعه، وأدرك قيمة الصحبة، وعرف إلى جوار من يكون.
قال تعالى:«وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ». (الكهف: 28).
الرامي هنا ليس مجرد شخص، بل هو رمز لكل صاحب بصيرة، لكل عالم ربّاني، ولكل مصلح صادق، ولكل قلب حيّ عرف الله فخافه، وعرف الطريق فثبَت عليه. الرامي هو من يرى ما لا يراه غيره، ويُدرك اتجاه الخطر قبل وقوعه، ويُحسن التمييز بين السهم الذي يُطلق للحماية، والسهم الذي يُطلق للهلاك.
وما أكثر من أصابتهم السهام لأنهم وقفوا في المكان الخطأ، أو وثقوا بمن لا يحسن الرمي، أو ظنّوا أن البُعد أمان. فالبُعد عن أهل الحكمة ليس سلامة، بل مكمن خطر. والعزلة عن الصالحين ليست قوة، بل هي ضعف خفيّ يتسلل إلى القلب حتى يُسقطه.
قال صلى الله عليه وسلم:
.«مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير»
إن الوقوف بجوار الرامي لا يعني الاتكال، ولا إلغاء العقل، بل يعني التعلم، والاقتداء، والاستضاءة بنور التجربة والإيمان. يعني أن تختار لنفسك بيئة ترفعك إذا ضعفت، وتذكّرك إذا نسيت، وتشدّ على يدك إذا كدت تنكسر. فكم من إنسانٍ انحرف لأنه أحاط نفسه بمن يصفّق للخطأ، وكم من آخر ثبت لأن حوله من يقول له: اتقِ الله.
وفي زمن الاضطراب، يصبح السؤال الأهم: إلى من أنتمي؟ ومع من أسير؟ ومن أستشير إذا التبست عليّ الأمور؟ فالقلوب تُسرق على حين غفلة، والعقول تُشوّش تدريجيًا، ولا عصمة بعد الله إلا بصحبةٍ صالحة، وقيادةٍ واعية، ومنهجٍ واضح.
فيا من تبحث عن النجاة، لا تستهِن بالمكان الذي تقف فيه، ولا بالأشخاص الذين تحيط نفسك بهم. قِف حيث الأمان، حيث تُرمى السهام عنك لا عليك، حيث يُحفظ دينك قبل دنياك، وقلبك قبل مظهرك موضع تفوح فيه رائحة الإيمان، لا مكان تحترق فيه القلوب.
كن بجوار الرامي تنجُ، فذلك هو فقه الحياة، وسرّ الثبات، وطريق السلامة في زمنٍ قلّ فيه الناجون.
[email protected]
أضف تعليق