هناك أشخاص لا يرحلون كما يرحل الآخرون. لا يطرقون باب الغياب بهدوء، ولا يكتفون بترك فراغ. محمد بكري، حين غاب، أحدث شرخًا في المعنى ذاته. كأن اللغة فقدت نبرة كانت تُجيد قول الحقيقة دون اعتذار، وكأن الضمير الجمعي أُصيب بفقدان ذاكرة مفاجئ، لأن شاهدًا أساسيًا على الألم والعدل والإنسان قد ترجل.
لم يكن محمد بكري فنانًا بالمعنى التقني للكلمة، بل بالمعنى الوجودي لها. الفن عنده لم يكن مهنة، بل امتحانًا يوميًا للأخلاق. لم يكن خشبة المسرح مساحة للتمثيل، بل محكمة ضمير، يدخلها عاريًا من الزيف، ويخرج منها مثقلًا بالمسؤولية. كان يعرف أن الدور الحقيقي لا ينتهي بانطفاء الضوء، وأن الإنسان يُختبَر خارج النص، في الحياة، حيث لا تصفيق ولا ستارة.
كان صدقه جارحًا لأنه غير مروّض. لم يتعلم كيف يخفف الحقيقة كي تصبح مقبولة، ولا كيف يغلّف الموقف بورقٍ ناعم. كان يقول الأشياء كما هي، لا كما نحب أن نسمعها. لذلك كان حضوره مربكًا. لأن الصدق، حين يكون كاملًا، يفضحنا جميعًا: صمتنا، ترددنا، محاولاتنا الصغيرة للتعايش مع الخطأ.
محمد بكري كان أخًا كبيرًا لا يربّت على الكتف ليمنح الطمأنينة، بل يضع يده على الجرح كي لا ننساه. كان يعرف أن المواساة السهلة خيانة، وأن القسوة أحيانًا شكلٌ نادر من أشكال الحب. أحبّ الناس دون أن يجاملهم، ووقف إلى جانب المظلوم دون أن يحسب الكلفة، ودفع ثمن ذلك عزلةً ثقيلة، وتشويهًا متعمّدًا، ومحاكمات لم تكن قانونية بقدر ما كانت أخلاقية… أخلاق السلطة لا أخلاق الإنسان.
لم يكن يبحث عن بطولة، وكان يدرك أن من يسير في طريق الضمير لا يُكافأ. ومع ذلك، لم ينكسر. أو ربما انكسر مرارًا، لكنه لم يسمح للانكسار أن يتحول إلى خضوع. ظل واقفًا لا لأن الوقوف سهل، بل لأنه لم يعرف وضعية أخرى تليق بالإنسان. كان يختار الخسارة الخارجية كي لا يخسر نفسه.
في صوته كان تاريخ من التعب النبيل، وفي عينيه كانت أسئلة لا تنام. لم يكن متفائلًا ساذجًا، ولا يائسًا مستسلمًا، بل إنسانًا يعرف أن الحقيقة بطيئة، وأن العدالة متعثرة، ومع ذلك تستحق أن ننتظرها واقفين. كان يؤمن أن الصمت ليس حيادًا، وأن الفن إن لم يكن منحازًا للإنسان، فهو ترف لا معنى له.
رحيله موجع لأننا لا نفقد شخصًا فقط، بل نفقد مرآة. نفقد من كان يذكّرنا، بوجوده وحده، أن الأخلاق ليست خطابًا يُلقى، بل ثمنًا يُدفع. نفقد من كان يضعنا أمام سؤال لا نحب مواجهته: ماذا نفعل حين تكون الحقيقة مكلفة؟ هل نختار السلامة أم الكرامة؟
لكن محمد بكري، paradox الغياب، لا يغيب. يتحول إلى معيار. إلى صوت داخلي يزعجنا كلما حاولنا التنازل. إلى حضور خفيّ في كل فنان يرفض أن يكون ديكورًا، وفي كل إنسان يختار الموقف رغم الخوف. يبقى لأن من عاش وفيًّا لضميره لا يُختزل في جسد، ولا يُغلق عليه قبر.
سلامٌ لك،
يا من اخترت الطريق الأصعب لأنك كنت تعرف أن الطرق السهلة لا تصنع أثرًا.
سلامٌ لروحك التي أتعبتها الحقيقة،
ولقلبك الذي اتسع للألم دون أن يساوم.
نم هادئًا…
فما تركته خلفك ليس ذكرى،
بل مسؤولية.
[email protected]
أضف تعليق