بقلم: غزال أبو ريا

مشاركتي في أيام العمل التطوعي على مرّ السنوات ليست مجرد نشاط عابر، بل تجربة إنسانية عميقة تحمل في طياتها معنى الانتماء الحقيقي. فعندما أشارك في عمل تطوعي مع أهل بلدي، مع إخوة لي، أشعر بأن الروابط الإنسانية تتجدد، وأن الانتماء يتحول من فكرة إلى ممارسة يومية. ففي كل مرة أنحني فيها لأُنظّف شارعًا من شوارع بلدي، أشعر بأن قامتي تزداد انتصابًا، وبأن كرامتي تتجلى بأوضح صورها. فالانحناء لخدمة المكان، جنبًا إلى جنب مع أبناء البلدة، ليس ضعفًا، بل قمة القوة الأخلاقية والمسؤولية المشتركة.

العمل التطوعي مع أهل البلد يعمّق روح الأخوّة، ويكسر الحواجز المصطنعة بين الناس، ويعيد الاعتبار لقيمة “نحن” بدل “أنا”. حين نعمل معًا، كبارًا وصغارًا، دون ألقاب أو فوارق، نتعلّم أن المجتمع القوي يُبنى بالتكافل، وأن الشارع الذي ننظفه معًا يصبح أكثر من طريق، بل مساحة ثقة واحترام متبادل.

كثيرون يربطون القيادة بالمناصب والألقاب، غير أن الواقع يُثبت عكس ذلك. وكما قال الأديب العالمي باولو كويلو: «يمكن للإنسان أن يكون قائدًا دون منصب». فالقيادة الحقيقية لا تُمنَح بقرار إداري، ولا تُختصر في موقع رسمي، بل تُبنى بالفعل، وبالمبادرة، وبالقدرة على التأثير الإيجابي في الآخرين.

القائد الحقيقي هو من يبدأ بنفسه قبل أن يطالب غيره، ومن ينزل إلى الميدان قبل أن يصعد إلى المنصة. هو من يُقدّم القدوة الصامتة، ويجعل من سلوكه رسالة، ومن عمله خطابًا. قد يكون هذا القائد شابًا يشارك في تنظيف حارته، أو متطوعًا ينظم حملة بيئية، أو مواطنًا بسيطًا يحافظ على جمال قريته دون انتظار شكر أو تقدير. هؤلاء هم القادة الفعليون، لأنهم يصنعون التغيير بهدوء وإخلاص.

كما أعتزّ بتقديم محاضرة توعوية أو كلمة فكرية، أعتزّ بالعمل التطوعي الميداني، لأن القيم لا تُعلَّم بالكلام وحده، بل تُغرس بالممارسة. فالفعل الصادق يسبق الخطاب، ويمنحه مصداقيته. ومن هنا، فإن العمل التطوعي ليس كماليات اجتماعية ولا نشاطًا موسميًا، بل ثقافة حياة ومسؤولية جماعية.

إن رسالتنا واضحة ولا تحتمل التأويل: بلداننا وقرانا ليست للمبيت فقط.
ليست أماكن نعود إليها للنوم ونغادرها مع شروق الشمس، بل مكان للانتماء، وذاكرة جماعية، وأمانة في أعناقنا جميعًا. وعندما نعمل فيها معًا، كإخوة، نُعيد لها روحها ونحفظ كرامتها.

إن تعزيز ثقافة العمل التطوعي يعني، في جوهره، تعزيز ثقافة القيادة المجتمعية؛ قيادة لا تقوم على السلطة، بل على القدوة، ولا تعتمد على المنصب، بل على الإحساس بالمسؤولية. وحين نُربي أبناءنا على أن القيادة موقف أخلاقي وسلوك يومي، لا لقبًا يُمنح، نكون قد أسسنا لمجتمع أكثر وعيًا، وأكثر تماسكًا، وأكثر احترامًا للمكان والإنسان.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]