لم تكن قرية العبيل تعرف معنى الضوء.
كان الصباح يتسلّل إليها كما لو أنه يستأذن البيوت قبل أن يطرق نوافذها. وفي بيتٍ حجريٍّ فوق التلّ، عاشت ليلى… فتاةٌ خُلقت بحجم الشمس، لكنهم أرادوا لها حجم ظل.

كانت ليلى تحب الكلام.
تجلس تحت شجرة الرمان، ترسم، تكتب، وتعلّم البنات القراءة سرًّا خلف المسجد.
لم تكن تدعو إلى ثورة، ولا إلى عصيان؛ كانت فقط تقول:
"الله لا يريدكنّ صامتات."

جملةٌ صغيرة…
لكن في قريةٍ تخاف النور، تتحوّل الكلمة إلى سكين.

بدأ الهمس يتكاثر مثل فراشاتٍ سوداء.
رجال المقهى يذرّون الكلام كما يذرّ الفلاح بذور الشوك.
قال أحدهم:
– البنت صارت كثيرة الكلام.
وردّ آخر:
– والسكين أبلغ.

وفي البيت، شعرت الأم أن الجدران تضيق.
أما نوار، أخوها، فصار صوته يشبه صدى رجلٍ يمشي نحو هاويةٍ لا يعرف عمقها. كان يحاول حماية البيت من كلام الناس، لكنه لم ينتبه إلى أن كلامهم هو النار الأولى.

في ليلةٍ ثقيلة، اجتمع الرجال في مجلس الظلال.
لم يقل أحدٌ كلمة "اقتلوها"، لكن الصمت كان يردّدها عنهم.
وحين خرجوا، خرج معهم حكمٌ غير مكتوب، لكنه نافذٌ كحدّ السكين.

تلك الليلة، كانت ليلى أمام مرآتها تمشّط شعرها.
فتح نوار الباب ودخل.
كان وجهه متعبًا، وصوته يختنق بين حبّها والخوف عليها ومنها ولأجلها.

قالت له بهدوء الموقنين:
– جئتَ لتقتلني؟
لم يجب.
رفعت يده المرتجفة، وضعتها على قلبها.
– لا تخف… العدوّ ليس أنا. العدوّ هو الظلام الذي أقنعك أنك تحميني بالدم.

وحين انطفأ المصباح، لم يُسمَع صراخ.
سقط شيءٌ على الأرض، ثم سقط شيءٌ أكبر في قلب نوار.

لم تمت ليلى…
بل تجمّدت في اللحظة نفسها التي اكتشفت فيها القرية أنها قتلت نورها الوحيد.

في المحكمة، جلس نوار كمن انقشعت عنه سحابةٌ ثقيلة، لكنه ظل مبتلًّا بظلّها.
سأله القاضي:
– لماذا قتلتها؟
قال:
– لأنني صدّقت الناس حين قالوا إن الشرف في جسدها.
فقال القاضي:
– وهل الشرف ملكُ الناس… أم ملكُ الله؟

بكت الأم حين شهدت وقالت:
– ابني لم يقتلها وحده. نحن جميعًا أعطيناه السكين.

أجّل القاضي الحكم، لأن القاتل الحقيقي لم يكن حاضرًا:
الجهل… الخوف… الصمت.

بعد أشهر، عاد نوار إلى البيت.
كانت شجرة الرمان التي كانت ترسمها ليلى قد كبرت، كأنها تحمل آخر نفسٍ لفظته.
وفي صندوقٍ صغير وجد رسائل كتبتها قبل موتها.

أقرب رسالة إلى قلبه قالت:
“إن متُّ قبلك، فازرع شجرة رمانٍ جديدة… فربما يصبح الدم ثمرة.”

زرعها.
وبينما كانت البذرة تنام في التراب، شعر أن قلبه يوقظ نفسه.

فتح بيت ليلى وجعله "بيتًا للعلم والنور".
صارت البنات يدخلنه ليتعلمن، كما كانت تقول لهنّ سرًّا.

وفي مساءٍ رقيق، أزهرت شجرة الرمان ثمرةً حمراء.
حملها نوار، رفعها نحو السماء، وهمس:
– ها هي يا ليلى… دمك صار حياة.

هبت ريحٌ دافئة، مرّت فوق الأوراق كأنها تصفق.
وسمع صوتًا خفيفًا يشبه ضحكتها:
"سامحتك… فسامح نفسك."

ومنذ ذلك اليوم، لم تعد القرية تخاف النور؛
بل صارت تبحث عنه في وجه كل طفلةٍ تحمل كتابًا،
وفي ظل كل شجرة رمانٍ تنبت قرب بيتٍ كان يومًا يخاف الضوء،
وصار الآن بيتًا يشبه قلب ليلى:
مفتوحًا… مشرقًا… لا يخاف شيئًا.

--

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]