بقلم رانية مرجية
الأمهاتُ…
هُنَّ البذرةُ الأولى للطمأنينة،
والجهةُ التي لا تتبدّل،
والقيمةُ التي يعجز الزمنُ عن انتقاصها.
في حضورهن يتعلّم القلب كيف يطمئنّ،
وفي غيابهن يتعلّم كيف يشتاق.
حين ترحل أمّ،
لا يفقد البيتُ صوتًا فحسب،
بل يفقد موسيقاه الداخلية؛
ذلك الإيقاع الخفيّ
الذي كان يُعيد ترتيب الفوضى في أرواحنا،
ويجمع شتاتنا
قبل أن نعي أننا تشتّتنا.
ولا يحدث الرحيل دفعةً واحدة،
بل يحدث على مهل،
كأنّ القدر يخشى أن يربك القلب بألمٍ لا يحتمل.
فتمضي الأمّ خطوة،
وتظلّ خطوة،
تبتعدُ جسدًا،
وتقتربُ روحًا،
حتى يغدو غيابها
شكلًا آخر للحضور.
الأمهاتُ…
لا يصعدن إلى السماء فحسب،
بل يأخذن السماء معهن.
تحوّلها الأمّ إلى نافذةٍ محبّة،
تطلّ منها على أبنائها
كما كانت تطلّ عليهم من باب الغرفة.
وبعد رحيل الأمّ،
لا يعود العالم كما كان:
تصبح السماء أقرب،
والليل أقلّ وحدة،
والحياة — رغم قسوتها —
تجد دائمًا طريقًا لتلين.
ليس الحزنُ هو ما يربطنا بالأمهات،
بل ما تركنه فينا
من قدرةٍ على النجاة:
ذلك الخيط الرفيع
الذي يشدّنا إلى الضوء
حين تغمرنا الظلال.
ذلك الصوت الذي نسمعه
لا من الخارج،
بل من المنطقة الأعمق
التي لا يصل إليها أحدٌ سوانا.
الأمهاتُ…
يصنعن فينا قلوبًا
تستطيع أن تبكي دون أن تنكسر،
وتتذكّر دون أن تهزمها الذكرى.
وحين نقول: “رحلتْ”،
نكون نقول نصف الحقيقة فقط؛
أما نصفها الآخر
فهي أنّها بقيت —
لكن بطريقةٍ أعمق،
لا تحكمها المسافة،
ولا يعرفها الفناء.
فالأمّ التي أحبّت حقًّا
لا يغادرها الأبناء،
ولا تغادرهم؛
تظلّ جزءًا من الهواء،
جزءًا من الخطوة،
وجزءًا من النور
الذي لا نعرف من أين يأتي،
لكنّه يصل دائمًا
في اللحظة الأكثر حاجةً إليه.
الأمهاتُ في السماء حاضرات…
حاضراتٌ لأن العاطفة
أقوى من الغياب،
ولأن الرحمة
لا تُمحى بالموت،
ولأن صوت الأمّ —
حتى بعد الصمت —
يظلُّ قادرًا
على أن يفتح في القلب
نافذةَ نجاة.
إن الأمّ التي كانت حياةً
تظلّ حياةً وإن غابت،
وتظلّ نورًا وإن خفتت،
وتظلّ ضِلعًا من ضلوعنا
وإن لم يعد لنا
أن نلمس يدها.
وما دام الحبُّ قائمًا،
فالأمهاتُ —
كل الأمهات —
حاضرات.
[email protected]
أضف تعليق