في زمنٍ تتناقص فيه الثقة بالقيادات السياسية وتتسع الهوة بين الجمهور ومؤسساته التمثيلية، يبرز ترشّح نيفين أبو رحمون لرئاسة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني كحدث استثنائي، لا لكونه مجرد مشاركة نسوية في سباقٍ انتخابي تقليدي، بل لأنه يفتح نافذة جديدة على معنى القيادة وجدوى التمثيل في سياق سياسي واجتماعي معقّد.



منذ عقود، شكّلت لجنة المتابعة الإطار الأهم في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل، لكنها، مثل كثير من المؤسسات السياسية، أصيبت بما يمكن وصفه بـ«الجمود التاريخي»؛ حيث استُهلكت الخطابات، وتراجع الفعل الميداني، وغابت الثقة الشعبية. في هذا الفراغ، يأتي صوت نيفين مختلفاً — لا يرفع الشعارات بل يسائلها: كيف يمكن تحويل اللجنة من هيئة رمزية إلى حركة حقيقية قادرة على التنظيم، والاستماع، والتحرك؟

من المعارضة إلى إعادة البناء


أبو رحمون، المربية والناشطة السياسية، تطرح مشروعاً أقرب إلى «إعادة التأسيس» لا إلى التجميل. في حملتها، لا تتحدث عن “أنا”، بل عن “نحن” — نحن النساء، الشباب، المهمّشين، وأولئك الذين لم يجدوا أنفسهم في قمم الهرم السياسي.

تقول في أكثر من مناسبة إن اللجنة يجب أن تعود “للناس”، وأن تكون صوتاً حيّاً للشارع لا انعكاساً لنزاعات الأحزاب. هذه الرؤية ليست فقط بيان نوايا؛ بل محاولة جريئة لتفكيك منظومة احتكار القيادة التي حكمت السياسة العربية في الداخل لعقود.



إنها تريد لجنة متابعة تتحرك من القاعدة إلى القمة، لا العكس. لجنة تُبنى من المجالس المحلية، من الحركات الشبابية، من الجامعات، من الأحياء المهمّشة. باختصار: من الحياة اليومية لا من قاعات الاجتماعات المغلقة.

القيادة كفعل أخلاقي


ما يميّز نيفين ليس فقط كونها امرأة تترشّح لمنصبٍ لطالما حُصر بالرجال، بل نوع القيادة التي تمثّلها: قيادة لا تقوم على الصدام ولا على الخطاب الأبوي المعتاد، بل على الإصغاء، التنظيم، والإلهام.

في سياق مجتمع ما زال ينظر بريبة إلى تمثيل النساء في مواقع القرار، تمثّل أبو رحمون تحدّياً مزدوجاً: فهي تقف أمام البنية السياسية الذكورية، وأمام الشكوك المجتمعية في الوقت ذاته. ومع ذلك، فإنها لا تقدّم نفسها كمرشّحة “نسوية فقط”، بل كقائدة تحمل مشروعاً وطنياً شاملاً يرى في العدالة والمساواة والكرامة أدوات سياسية لا شعارات عاطفية.



في عالمٍ يزداد انقساماً، تصبح السياسة الأخلاقية — كما تصفها — خياراً ثورياً. فحين تقول إن “السياسة يجب أن تكون فعل أمل لا إدارة أزمة”، فإنها تلخّص أزمة جيل بأكمله يشعر بأن مؤسساته تمثّله بالكلام فقط.

بين إرث الماضي وتحديات المستقبل


خصوم نيفين أبو رحمون ليسوا فقط منافسيها الأربعة على المنصب، بل منظومة كاملة من المصالح، والعادات السياسية، والاصطفافات الحزبية.

فهي تواجه نخبةً تشكّلت خلال عقود من الصراع والبقاء، نخبة اعتادت أن ترى القيادة كموقع لا كمشروع. هذه المواجهة غير متكافئة، لكنها ليست خاسرة؛ إذ تكمن قوة نيفين في قدرتها على مخاطبة جيلٍ جديدٍ من الفلسطينيين في الداخل — جيلٍ يريد قيادة صادقة، شفافة، قريبة، لا تُدير ظهرها لهم بعد الانتخابات.



ولعلّ الأهم أن ترشّحها يعيد تعريف دور لجنة المتابعة نفسها. فهل تبقى اللجنة مظلة تمثيلية محدودة النفوذ؟ أم تتحول إلى مؤسسة مدنية – سياسية تملك أدوات ضغط فعليّة على سياسات الدولة تجاه مواطنيها العرب؟

الجواب لن يأتي فقط من فوز نيفين أو خسارتها، بل من مدى نجاحها في زرع فكرة أن التغيير ممكن من الداخل، وبالطرق الديمقراطية ذاتها التي طالما قُمعت.

لحظة رمزية أبعد من الانتخابات


قد يرى البعض أن ترشّح نيفين أبو رحمون مجرد محطة رمزية. لكن الرموز، أحياناً، تُحدث ما تعجز عنه البيانات والمظاهرات.

ترشّحها يضع المجتمع العربي أمام مرآته: هل نحن مستعدّون لقبول امرأة في موقع القيادة؟ هل نريد تجديداً حقيقياً أم نحتمي بعباءة الماضي؟ وهل يمكن أن نحلم بلجنة متابعة تُعبّر عن تعددنا لا عن انقسامنا؟



في هذا المعنى، نيفين لا تمثل نفسها، بل تمثل اختباراً لوعينا الجمعي. فإما أن نواصل الدوران في حلقة الرجال أنفسهم، أو نفتح الباب لجيلٍ جديدٍ من القيادة، مختلفٍ في لغته وأدواته وجرأته الأخلاقية.

ختامًا


قد لا تفوز نيفين أبو رحمون، وقد تواجه حرب استنزاف من القوى التقليدية، لكنّ ترشّحها وحده انتصار صغير لعقلٍ سياسي جديد بدأ يتشكّل.

ففي عالمٍ تسيطر عليه النزعة الذكورية، والأنانية السياسية، والاصطفافات الأيديولوجية العقيمة، يظهر صوت يقول: يمكن أن نقود بالضمير، لا بالهيمنة.

وهذا وحده، في سياقنا، ثورة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]