شهدت الساحة السياسية العربية في الداخل الفلسطيني خلال الأسابيع الأخيرة جدلاً واسعًا أمام مشهد انتخاب رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية. هذا الحدث، الذي يُفترض أن يكون ديمقراطيًا وتمثيليًا يعكس وحدة شعبنا وتطلعاته، تحول، مع الأسف إلى ما يشبه "بسطة" في سوق شعبي، أو "سوق مبايعات" وتحالفات مصلحية ضيقة، حيث تسود الصفقات، والمصالح الفئوية، والمبايعات المناطقية، وكأنّنا أمام حالة من المساومة السياسية التي تخلو من أي رؤية وطنية جامعة أو مضمون سياسي يليق بحجم التحديات التي تواجه مجتمعنا.
ما يجري هو انكشاف لحقيقة دامغة: لجنة المتابعة تحولت من إطار وطني تمثيلي إلى حالة شكلية، تفتقر للشرعية الجماهيرية، وتُدار بعقلية نادٍ مغلق، تتحكم به قوى حزبية تقليدية لا تتيح المجال للتجديد ولا تعكس التعددية المتزايدة في مجتمعنا.
منطق التمثيل المصلحي بدلًا من القيادة المجتمعية: التحالفات الفئوية والمناطقية التي تحكمت بمشهد الانتخاب الأخير كشفت عن انحدار خطير في مستوى العمل الوطني. بدلًا من أن تكون لجنة المتابعة إطارًا قياديًا يُوحّد الصوت العربي، أصبحت ساحة لتصفية الحسابات وتثبيت النفوذ، دون أي اهتمام حقيقي بسؤال: "كيف نقود هذا المجتمع إلى برّ الأمان؟"
نحن اليوم أمام مجتمع يعاني من ضياع سياسي وغياب مشروع سياسي موحّد، وتفكك في المواقف إزاء القضايا المصيرية. نحن بصدد أزمة تمثيل، جمهور واسع لا يشعر أن اللجنة تمثّله، خصوصًا الشباب، النساء، الأكاديميين، والمجتمع المدني.
المشكلة ليست في الأشخاص، بل في البنية: ما نشهده اليوم ليس فقط انعكاسًا لأزمة قيادة، بل لأزمة بنيوية عميقة تعاني منها اللجنة منذ سنوات. لقد تحولت لجنة المتابعة من مشروع وحدوي جامع إلى إطار تتحكم فيه ذات القوى والأحزاب، ضمن تمثيل جامد لا يعكس التعددية السياسية والاجتماعية، ولا يفسح المجال للطاقات الشابة، ولا يضمن مشاركة المجتمع المدني والمستقلين والشرائح المهمشة من النساء والشباب. مجتمعنا اليوم لا يحتاج الى وجوه جديدة فقط، بل الى رؤية جديدة، وأدوات جديدة، ونهج قيادي مبادر وجامع.
إصلاح جذري: التمثيل والشكل: مجتمعنا يمر بمرحلة تحمل في طياتها العديد من التحديات مثل تفشي العنف والجريمة، الفقر والمسكن، وشعور متزايد بالإقصاء السياسي من مراكز اتخاذ القرار وتفشي العنصرية... في ظل هذه الصورة القاتمة، لا يمكن أن نستمر بمنظومة قديمة لت تعد تلبي أدنى متطلبات العمل الوطني، بل باتت في بعض جوانبها عبئا على إمكانيات التغيير. إذا أردنا للجنة المتابعة أن تستعيد شرعيتها، فعلينا أن نعيد النظر جذريًا في تركيبتها وآليات عملها. المطلوب:
1. إعادة رسم التمثيل: اعتماد نموذج تمثيلي أكثر عدلاً يوزّع بين الأحزاب الفاعلة، واللجنة القطرية للسلطات المحلية، وضمان تمثيل شرائح إضافية تنتخب من خلال ترشح مفتوح لكل من يرغب عبر عملية ومعايير ديمقراطية شفافة.
2. فتح اللجنة أمام المجتمع: إلغاء ثقافة النادي المغلق، وفتح الأبواب أمام المجتمع المدني، والناشطين، والمهنيين، والمستقلين.
3. هيئات مرافقة: إقامة لجان مهنية استشارية في مجالات متعددة كالصحة، التعليم، الاقتصاد، المرأة، الشباب، وغيرها، لتكون ذراعًا معرفيًا واستراتيجيًا وتنفيذيا للجنة.
4. ضمان التعددية والمساءلة: اعتماد مبادئ الحوكمة، والمساءلة، والشفافية في اتخاذ القرار، وإعادة هيكلة دستور اللجنة.
5. الانتقال من ثقافة رد الفعل الى ثقافة المبادرة من خلال طرح خطط استراتيجية وحملات جماهيرية تدار بوسائل مهنية والعمل مع شركاء من المجتمع اليهودي والمجتمع الدولي ومؤسسات حقوق الانسان.
6. استعادة ثقة الشارع من خلال خطاب يلامس لغة الناس والالتزام بنهج الشفافية والتخلي عن ثقافة المحاصصة والمصالح الذاتية.
ختامًا، نحن لا نملك ترف الوقت. الواقع السياسي والاجتماعي يفرض علينا إعادة بناء أدواتنا التمثيلية بما يتماشى مع تحديات المرحلة. إذا لم نغتنم الفرصة لإصلاح جوهري فان لجنة المتابعة، ستفقد ما تبقى من شرعيتها، وسيفقد مجتمعنا أحد أبرز أطره الوطنية الجامعة وسنخسر أهم إمكانيات تنظيم أنفسنا كأقلية قوية تسعى للكرامة والعدالة والمساواة.
فلنجعل من هذه اللحظة فرصة لبداية جديدة، لا استمرارًا لعقليات قديمة
[email protected]
أضف تعليق