مدخل: حين تكتب الذاكرة نفسها
ليس كل كاتبٍ يُولد من رحم الكتابة؛ بعضهم يُولد من رحم الجرح.
وناجي ظاهر هو أحد هؤلاء الذين كُتبت لهم الحروف بالدمع قبل أن تُكتب بالحبر.
منذ أن فقدت قريته سيرين ملامحها على خريطة الوجود، حملها في قلبه لاجئةً بين كلماته.
لم يكن مشروعه الأدبي مجرّد فعل سردي، بل مشروع مقاومةٍ للغياب، وذاكرةٍ تقف في وجه العدم، وشهادةٍ على أن فلسطين لا تُمحى لأنها تُكتب كل يوم من جديد.
⸻
الطفولة الجريحة وبذرة الكتابة
وُلد ناجي ظاهر في مدينة الناصرة بعد النكبة بسنواتٍ قليلة، لكن تلك الفاجعة لم تكن بالنسبة له حدثًا تاريخيًا، بل إحساسًا دائمًا بالاقتلاع.
طفولته الأولى كانت في بيتٍ بسيطٍ مكتظ بالقصص؛ وكانت الحكاية الأولى التي سمعها من جدّته ليست عن الجنّ أو العشق، بل عن قريةٍ تُدعى “سيرين”، وعن الطريق إليها الذي صار حلمًا ممنوعًا.
من هناك، بدأ الطفل يُدرك أن السرد فعل نجاة، وأن الكلمة يمكن أن تُعيد بناء ما هدمته الحرب.
التحق بالصحافة في شبابه، فصارت الكلمة مهنته وسلاحه معًا.
كتب في الصحف الفلسطينية والعربية، وبدأت نصوصه تتسرّب إلى القلوب لأنها صادقة، ولأنها تُشبه الناس الذين يكتب عنهم: أولئك البسطاء الذين يمشون مثقلين بالحياة، لكنهم لا يتوقفون عن الحلم.
⸻
الكتابة كفضاءٍ للحرية
في عالم ناجي ظاهر، لا تنفصل الكلمة عن الإنسان.
الكتابة عنده ليست متعةً جماليةً فحسب، بل مسؤولية وجودية.
هو يؤمن أن الكاتب الحقيقي لا يكتب ليُعجب، بل ليُوجِع — ليحرّض الوعي، ويُعيد ترتيب الفوضى التي تركها القهر اليومي والاحتلال والتهميش.
ولذلك ظلّ ظاهر يكتب من داخل فلسطين، في بيئةٍ تخنق الكلمة، لكنه جعل منها حديقة.
كتب في زمنٍ كان الأدب الفلسطيني في الداخل يُحاصر لغويًا وثقافيًا، فحوّل الحصار إلى فنّ، والحدود إلى صورٍ رمزيةٍ مكثّفة، تشبه القصيدة حين تتقمّص شكل النثر.
⸻
جغرافيا النص: بين المكان والهوية
المكان في نصوص ناجي ظاهر ليس خلفيةً للأحداث، بل شخصيةٌ فاعلة تشارك في البناء السردي.
الناصرة ليست مدينةً فقط، بل ذاكرة حيّة. الأزقة تتكلم، الجدران تتنفس، والبيوت تُشيّع الحنين كما لو كانت كائنات بشرية.
أما سيرين – القرية المهدّمة – فهي “الظلّ المقدّس” الذي لا يغيب.
في كل عملٍ أدبي له، نلمح محاولةً لاستعادة الجغرافيا المسروقة عبر الخيال.
يكتبها لا كما كانت، بل كما يجب أن تكون: طاهرة، خضراء، حاضنة للعدالة والإنسان.
بهذا، يتجاوز ظاهر الكتابة الواقعية إلى كتابة الذاكرة الفاعلة، التي تعيد خلق العالم بدلًا من رثائه.
⸻
بنية السرد: بين الحلم والتاريخ
تتجلّى عبقرية ناجي ظاهر في قدرته على المزج بين الواقعية الاجتماعية والخيال الرمزي.
شخصياته تعيش في زمنٍ يومي مألوف، لكنها تفكر كمن يعيش في حلمٍ أبدي.
في قصصه القصيرة، مثل “حبّات المطر” و*“أحلام لا تعرف الحدود”* و*“الزيتون لا يموت”*، يتقاطع الواقع مع الأسطورة، والحكاية مع الأسئلة الوجودية.
إنه يكتب من قلب الحياة، لكنه لا يكتفي بوصفها، بل يُعيد صياغتها ليجعلها قابلةً للأمل.
اللغة عنده شفافةٌ ومشحونةٌ في آنٍ واحد.
جملةٌ بسيطةٌ يمكن أن تحمل طبقاتٍ من الدلالات: وطن، أم، ذاكرة، موت، قبلة، حجر — كلها مفرداتٌ تتجاوز معانيها المباشرة لتصبح إشاراتٍ كونية عن معنى البقاء.
⸻
الإنسان أولًا وأبدًا
في قلب مشروعه الأدبي، يقف الإنسان — لا كرمزٍ أو شعار، بل ككائنٍ هشٍّ يبحث عن خلاصٍ صغيرٍ في عالمٍ قاسٍ.
يرسم ظاهر بمهارةٍ نفسيةٍ دقيقة وجوهًا لأناسٍ يعيشون على هامش الضوء:
عاملٌ يحدّث نفسه في المرآة عن كرامته الضائعة،
أرملةٌ تخبّئ رسائل ابنها الشهيد في صندوقٍ خشبي،
وطفلٌ يسأل أباه إن كان البحر يعرف اسمه.
هذه التفاصيل البسيطة هي التي تصنع عظمة نصوصه.
لا أبطال خارقين في عالمه، بل بشرٌ من لحمٍ ودمٍ ووجعٍ، لكنهم يصنعون بطولة البقاء رغم كل شيء.
⸻
الكاتب كمشروع ثقافي
ليس ناجي ظاهر مجرّد أديبٍ غزير الإنتاج، بل مشروع ثقافي فلسطيني متكامل.
عمل في الصحافة، ودرّس الأدب، وأدار ورشاتٍ للكتابة الإبداعية، وأسّس فضاءاتٍ للحوار الثقافي في الداخل الفلسطيني.
كتب أكثر من خمسين كتابًا بين القصة والرواية والمسرح والشعر والمقالة.
نال جائزة الإبداع الأدبي عام 2000، وظلّ وفيًا لقلمه وموقفه الإنساني.
لم يُساوم على فكره، ولم يُغيّر نبرته ليرضي سلطةً أو حزبًا.
ظلّ يكتب كما يتنفس، وكأن الكتابة بالنسبة له ليست اختيارًا بل قدرًا نقيًا.
⸻
فلسطين كرمزٍ إنساني عالمي
ما يجعل أدب ناجي ظاهر جديرًا بالقراءة عالميًا هو أن فلسطين عنده ليست “قضية سياسية” فحسب، بل تجربة إنسانية شاملة.
حين يكتب عن النكبة، فهو يكتب عن المنفى الذي يسكن كل إنسان فقد معنى البيت.
وحين يكتب عن الحب، فإنه لا يفصله عن الفقد، لأن الفقد هو الوجه الآخر للحب.
بهذا المعنى، فإن أدبه يتجاوز المحلية إلى الكونية.
فالقارئ في بيروت أو باريس أو مكسيكو سيتي يمكن أن يرى نفسه في نصوصه، لأن ما يكتبه هو الإنسان في جوهره: الحنين، الخوف، الحلم، الكرامة.
⸻
بين الحنين والتمرد
في كل حرفٍ من حروفه، ثنائيةٌ تشتعل: الحنين والتمرد.
هو لا يكتب عن الماضي كنوستالجيا، بل يستحضره ليُحاكم الحاضر، ويُعيد للحكاية معناها الأخلاقي.
الحنين عنده ليس انكسارًا، بل طاقة مقاومة.
والتمرد ليس صخبًا، بل فعل كتابةٍ هادئٍ وعميقٍ يقول ما لا يستطيع السياسي قوله.
بهذه الثنائية، حافظ على صدق فني نادر في زمنٍ صار فيه الأدب مرآةً للسطح لا للعمق.
⸻
خاتمة: الكاتب الذي جعل من الألم جمالًا
في زمنٍ تتكاثر فيه الأقنعة، يبقى ناجي ظاهر وجهًا نقيًا للأدب الصادق.
لم يبحث عن شهرةٍ عابرة، بل عن أثرٍ باقٍ.
لم يكتب ليُرضي أحدًا، بل ليحفظ الذاكرة من النسيان.
في كتاباته تتجلى فلسطين كما لم تُروَ من قبل: امرأةٌ جميلة تتزين بالحروف، وتبتسم رغم جراحها.
إنه أحد أولئك الذين حوّلوا المأساة إلى فنّ، والفقد إلى أغنيةٍ دافئة.
هو من علّمنا أن الأدب ليس وسيلةً للهروب من الواقع، بل طريقةٌ ساميةٌ لمواجهته.
ناجي ظاهر هو الكاتب الذي جعل من الحبر وطنًا، ومن الوجع قصيدة، ومن الذاكرة بيتًا يسكننا جميعًا.
⸻
هوامش وسيرة مختصرة للنشر
• الاسم: ناجي ظاهر
• الميلاد: مدينة الناصرة، أصل عائلته من قرية سيرين المهجّرة (قرب بيسان)
• المجال: القصة القصيرة، الرواية، المسرح، الشعر، المقالة
• عدد الأعمال: أكثر من خمسين إصدارًا أدبيًا
• الجوائز: جائزة الإبداع الأدبي – وزارة الثقافة 2000
• الترجمات: إلى الإنجليزية والعبرية ولغات أخرى
• الإقامة: في الناصرة – فلسطين
[email protected]
أضف تعليق