بقلم: رانية مرجية

كان الطريقُ ممتدًّا أمامهم كخيطٍ رماديٍّ لا نهاية له، يشبه اختبارًا صامتًا للصبر.

السماءُ تهبط ببطءٍ نحو الأفق، والمساء يزحف بألوانه الثقيلة على وجه النهار الأخير.

كانت السيارة تمضي في هدوءٍ ثابت، كأنها تعرف وجهتها أكثر من ركّابها، إلى أن اختنق صوت المحرّك فجأة، وتوقّفت على حافة الشارع السريع.

انطفأت الضوضاء، وامتلأت السيارة بصمتٍ كثيفٍ يشبه انتظارًا طويلاً.

من الخارج، مجرد عطلٍ بسيط في سيارة صغيرة.

لكن من الداخل، كانت لحظةً فارقة — لحظة انكشافٍ إنسانيٍّ بين أربعة أرواحٍ تعلّمت أن تُخفي هشاشتها خلف روتينٍ يوميٍّ هادئ.

ثلاثة متوحّدين، ومرشدة واحدة.

لكن “التوحّد” لم يكن توصيفًا، بل عوالم كاملة تسير بجانبها دون أن تصطدم بها.

آدم، يرى الموسيقى في الضوء.

نادر، يضحك من نسمةٍ تمرّ، كأن في الضحك خلاصًا.

سليم، يتهرّب من اللمس، لكنه يلمس الحياة بعينيه.

وليلى، المرشدة التي تتعلّم كل يوم كيف تصغي إلى الصمت، وكيف تكون جسرًا بين العالمين.

فتحت ليلى النافذة، تنفّست الهواء الممزوج برائحة الأسفلت الساخن، وقالت بابتسامةٍ أكثر شجاعة من حقيقتها:

“السيارة محتاجة ترتاح شوي.”

سأل آدم بعينين صادقتين:

“هي تعبت؟”

أجابت:

“كلنا بنتعب يا آدم… حتى الحديد.”

ضحك نادر، وضحكته كانت خفيفة، تشبه نغمةً تائهة في أغنيةٍ لم تكتمل.

أما سليم، فظلّ صامتًا، يراقب الغروب كأنه يرى فيه وعدًا خفيًا.

السيارات المارّة كانت كالسكاكين، تقطع الهواء بسرعةٍ دون أن تلتفت.

لكن في تلك السيارة المتوقفة، الزمن توقّف معهم، وبدأ شيءٌ آخر ينبض — نوع من السلام الذي لا يأتي إلا حين نفقد السيطرة.

أخرجت ليلى زجاجة ماء وبعض البسكويت، وجلست معهم على الرصيف الإسمنتي.

الشمس كانت تغادر العالم بهدوء، والريح تمرّ على وجوههم كلمسةٍ حانية من الغيب.

قالت وهي توزّع البسكويت:

“وأنا صغيرة كنت بخاف من الطريق. كنت أقول لماما: يمكن أضيع؟ فكانت تضحك وتقول: اللي بيخاف من الضياع… بيضل شايف الطريق.”

تأملها سليم طويلًا، ثم قال فجأة، بصوتٍ واضحٍ على غير عادته:

“إحنا مش ضايعين… إحنا واقفين.”

تجمّدت الكلمات على شفتيها.

لم تتوقع منه جملة بهذا الوعي.

شعرت أن الصمت الذي كان يلفّه لم يكن عجزًا، بل عمقًا لا يراه أحد.

أدركت أن هذا التوقف لم يكن مجرّد عطل، بل استراحة روحية من الركض.

مرت ساعة.

جاء الميكانيكي، أصلح السيارة، وانطلقت من جديد.

لكنهم لم يعودوا كما كانوا.

كان في العيون شيءٌ جديد، وفي الهواء خفّة لم تكن قبل قليل.

قال آدم وهو يضع يده على المقود:

“السيارة رجعت تغنّي.”
ابتسمت ليلى، وأدركت أن ما غنّى لم يكن المحرّك، بل أرواحهم التي استيقظت.

في تلك الليلة، حين عبروا آخر جسرٍ قبل المدينة، كانت تفكّر أن الطريق لا يُقاس بالأميال، بل باللحظات التي تُعيدك إلى نفسك.

وأن الوصول الحقيقي لا يحدث حين نصل إلى المكان، بل حين نتوقّف لنرى بوضوحٍ من نحن.

حين توقّف الطريق، بدأوا بالوصول.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]