لطالما كانت الثقة بين الطبيب والمريض حجر الأساس في نجاح السيرورة الطبية، فهي الرابط الإنساني الذي يربط بين العلم والرحمة، وبين التشخيص والعلاج. على مرّ العقود، كان الطبيب في عيون الناس رمزًا للحكمة، والصدق، والعطاء الإنساني غير المشروط. غير أن هذه الصورة بدأت تتغيّر في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت الثقة بالأطباء تتراجع تدريجيًا في مجتمعات كثيرة، حتى بات بعض المرضى يشكّون في نوايا الطبيب قبل أن يستمعوا إلى تشخيصه أو يلتزموا بعلاجه.
وفي محاولة لفهم هذا التغيّر، أجريتُ استطلاعًا بسيطًا عبر صفحتي على إنستغرام قبل عدة ايام وقد شارك في الاستبيان قرابة 200 شخص من الفئات العمرية 15-55، سألت فيه المتابعين عن مستوى ثقتهم بالطبيب في الوقت الحالي. جاءت النتائج معبّرة بوضوح عن واقع مقلق:
ثقة منخفضة: 37٪
ثقة متوسطة: 43٪
ثقة عالية: 14٪
ثقة عالية جدًا: 5٪
هذه الأرقام تُظهر أن أغلب الناس يعيشون حالة من الحياد أو الحذر في تعاملهم مع الأطباء، وأن نسبة الثقة العالية أصبحت محدودة جدًا، وهو ما يعكس فجوة حقيقية تحتاج إلى معالجة جادة.
لكن ما الذي غيّر هذه الصورة النبيلة؟ وما الأسباب التي جعلت الناس ينظرون إلى الطب بعين الريبة بعد أن كان رمزًا للقداسة المهنية؟
يمكن تلخيص الأسباب في ثلاثة محاور رئيسية:
أولاً: كثرة عدد الأطباء وقلة المهنية
شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في أعداد الأطباء، مع توسّع الجامعات الطبية وتنوّع برامج التعليم. إلا أن هذا التوسع الكمي لم يُرافقه بالضرورة تحسّن نوعي في الكفاءة والمهنية. فأصبح في الميدان أطباء يفتقرون إلى مهارات التواصل، أو الدقة العلمية، أو الحس الإنساني في التعامل مع المريض. ومع تكرار الأخطاء الطبية وسوء التشخيص وضعف المتابعة، بدأت ثقة الناس تهتزّ، وأصبح المريض يبحث عن “الطبيب الموثوق” بين عشرات يحملون نفس اللقب.
ثانياً: قلة التواضع والمعاملة الفظة
الطب ليس علمًا فحسب، بل فنٌّ في التواصل قبل كل شيء. المريض، في لحظات ضعفه، يحتاج إلى كلمة طيبة وابتسامة صادقة بقدر حاجته إلى دواء فعّال. غير أن بعض الأطباء باتوا يتعاملون مع المرضى بفوقية أو جفاء، وكأنهم في موقع سلطة لا في موقع خدمة. هذه الفجوة الإنسانية أدت إلى شرخ كبير في العلاقة، فالمريض الذي لا يشعر بالاحترام أو التفهّم من طبيبه لن يثق به مهما بلغت خبرته.
ثالثاً: التجارة بالطب
من أكثر ما أضعف صورة الطبيب في العصر الحديث هو تحوّل المهنة إلى تجارة لدى فئة من الأطباء. ارتفاع الأسعار المبالغ فيه، التوصية بإجراءات أو فحوصات غير ضرورية، والارتباط بالمصالح المادية مع بعض الشركات الدوائية، بالإضافة إلى توجّه كثير من الأطباء الجدد نحو طب التجميل بدافع الربح السريع، كلها أمور جعلت المريض يشكّ في أن الطبيب يسعى وراء الربح أكثر من مصلحة المريض. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت القصص والتجارب السلبية تنتشر بسرعة، ما عمّق أزمة الثقة بشكل أكبر.
كيف يمكن استعادة الثقة؟
إعادة بناء الثقة ليست مهمة سهلة، لكنها ممكنة إذا توفرت الإرادة من الطبيب، والمؤسسات الطبية، والمجتمع على حد سواء.
وفي هذا الإطار، يمكن التركيز على ثلاث خطوات رئيسية:
تعزيز المهنية والرقابة: عبر تحسين جودة التعليم الطبي، ووضع آليات صارمة للترخيص والمراجعة، ومحاسبة المقصّرين مهنياً وأخلاقياً.
إحياء الجانب الإنساني: على الأطباء أن يستعيدوا روح الطب القديمة القائمة على الرحمة والتواضع والتواصل الصادق، فالثقة تُبنى على المشاعر قبل المؤهلات.
فصل الطب عن التجارة: من خلال الشفافية في الأسعار، ووضع ضوابط لتوصية العلاجات والفحوصات، وتشجيع الأنظمة الصحية على تبنّي نموذج يقوم على الرعاية لا الربح.
من خلال عملي اليومي في المجال الطبي، ألاحظ أن المريض لا يبحث فقط عن العلاج، بل عن شعور بالأمان. قد ينسى وصفة الدواء، لكنه لا ينسى نبرة صوت الطبيب أو طريقته في الاستماع إليه. لذلك أؤمن أن مستقبل الطب لن يُبنى على التكنولوجيا فقط، بل على الثقة، والصدق، والتواضع فهي العوامل التي تفتح الطريق الحقيقي نحو شفاء الإنسان، جسدًا وروحًا.
في النهاية إن أزمة الثقة بالأطباء ليست مشكلة الأطباء وحدهم، بل هي مرآة لاختلال العلاقة بين الإنسان والعلم في زمن تسوده السرعة والمظاهر. استعادة هذه الثقة تحتاج إلى عودة صادقة إلى جوهر المهنة، حيث يكون الطبيب شريكًا في الشفاء لا تاجرًا في الألم، وحيث يرى المريض في الطبيب وجه الإنسانية قبل أن يرى المعطف الأبيض.
[email protected]
أضف تعليق