المشهد الأول: المجيء
كانت القرية، المحاطة بجبالٍ صامتة، أشبه بجزيرةٍ صغيرة خارج الزمن. الناس يعرفون بعضهم بالاسم، والأبواب مشرّعة، والأغاني القديمة تُغنّى في الساحات كل مساء. كان النبع العتيق في وسط القرية يوزّع ماءه بعدلٍ بين الجميع، وكأنما يبارك حياتهم البسيطة.
وفي صباحٍ غائم، ظهر غرباء على مشارف القرية. لم يأتوا بخيولٍ ولا أسلحة، بل بملابس أنيقة وابتسامات عريضة. رفعوا رايات الحرية والتقدم، وقالوا إنهم جاؤوا ليمنحوا القرية ما ينقصها: أضواء جديدة، ألعاب براقة، وطرائق عيشٍ “أحدث”.
تردّد الأهالي، لكن الفضول غلبهم. قالوا: “لن نخسر شيئًا إن جرّبنا.” فُتحت الأبواب، ودخل الغرباء كما يدخل النسيم من نافذةٍ نصف مفتوحة.
المشهد الثاني: السيطرة
لم يكتفِ الغرباء بالسكن في أطراف القرية، بل بدأوا يتسللون إلى قلوب الناس. بدّلوا الأغاني القديمة بأصوات صاخبة، وأقنعوا الأطفال أن اللعب الحقيقي ليس بين الحقول، بل أمام الشاشات التي أحضروها.
تدريجيًا تغيّر كل شيء:
صار السوق يعجّ بسلع لامعة نسي الناس معها خبز أمهاتهم.
صار الجلوس تحت شجرة الساحة أمرًا “بدائيًا”، لا يليق بالقرية “المتحضرة”.
حتى النبع الذي طالما وزّع ماءه بسلام، هجروه من أجل قوارير بلاستيكية زُيّنت بشعارات الغرباء.
تبدّلت العيون، لم تعد نظراتها صافية. غزا القلق قلوب الناس، وصاروا يقيسون أنفسهم بما عند غيرهم، لا بما يملكون من دفءٍ ورضا.
لم يحتج الغرباء إلى سلاحٍ واحد. لقد احتلوا القرية بالوهم.
المشهد الثالث: المقاومة
في ليلةٍ قمرية، اجتمع القليلون الذين ما زالوا أوفياء لذكرياتهم حول الشجرة العتيقة. كانت أصوات الغرباء تعلو في القرية، لكنهم أشعلوا قناديل صغيرة وأخذوا يغنون أغاني أجدادهم. لم تكن أضواؤهم كثيرة، لكنها اخترقت الظلام. لم تكن أصواتهم صاخبة، لكنها صادقة، فأيقظت شيئًا كان نائمًا في أرواح الآخرين.
تساءل أحد الشيوخ:
– كيف سمحنا لهم أن يسكنوا بيوتنا؟
أجاب آخر:
– لم يسكنوا البيوت… لقد سكنوا فراغاتنا.
ومع كل قنديل يُضاء، ومع كل كلمة تُستعاد من الأغاني القديمة، بدأ الغرباء يخسرون نفوذهم. فهم الناس أن ما أضاعوه لم يكن خبزًا ولا أرضًا، بل ذواتهم. وعندما يستعيد الإنسان نفسه، لا يبقى للدخلاء مكان.
وهكذا، لم ترحل آثار الغرباء تمامًا، لكن القرية عادت تتنفس من جديد. تعلم أهلها أن الحصون لا تُبنى بالحجارة، بل بالوعي، وأن الوطن الحقيقي لا تسكنه الدخلاء إلا إذا هجره أصحابه.
[email protected]
أضف تعليق