بقلم: د. طارق محمود بصول - مختص في الجغرافيا التاريخية-السياسية والقانونية

منذ أكثر من عام، تلوح في الأفق فكرة إعادة تشكيل "القائمة المشتركة"، التي أثّرت بعمق على العمل السياسي للأقلية العربية في إسرائيل خلال الفترة من 2015 حتى 2022. في الأشهر الأخيرة، برزت مؤشرات على تقدم في الحوار بين ممثلي الأحزاب العربية الأربع: الحركة الإسلامية (القائمة الموحدة)، الجبهة، التجمع، والعربية للتغيير. ومع ذلك، فإن هذه اللقاءات – حتى لحظة كتابة هذا المقال – لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، خاصة في ظل تباعد مواعيدها.

يختلف المواطنون العرب في إسرائيل في موقفهم من إعادة تشكيل القائمة المشتركة؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي أن الأغلبية تؤيد الفكرة، بينما يرى المعارضون أن هذه القائمة تُهمّش مبدأ التعددية السياسية وتُضعف تنوّع التيارات داخل المجتمع العربي.

هذا المقال يهدف إلى توضيح أن القائمة المشتركة لا تتناقض مع مبدأ التعددية، بل قد تُشكّل وسيلة فعالة لتعزيزه، من خلال النظر في التجربة السياسية للأقلية العربية، واستعراض أمثلة تاريخية تُبرز كيف يمكن للوحدة السياسية أن تتعايش مع تنوّع فكري وأيديولوجي.

ما هو مبدأ التعددية؟

التعددية ليست مجرد مفهوم سياسي، بل هي قيمة حضارية تشمل الجوانب الدينية، الثقافية، الاجتماعية والفكرية. تظهر التعددية في العادات والتقاليد: في الأعراس، طرق التعزية، اللباس، الطعام، وغيرها من المظاهر الثقافية. كما نجدها في التعدّد الديني، مثل اختلاف الطوائف المسيحية (أرثوذكس، كاثوليك، بروتستانت) أو المذاهب الإسلامية (حنفي، شافعي، مالكي، حنبلي، أحمدي وغيرهم). وقد يكون الاختلاف فكريًا أو عقائديًا بين المؤمنين والملحدين، أو بين أنصار الفكر القومي والديني والمدني. رغم هذه الفروقات، يمكن أن تتلاقى الأطراف المختلفة في إطار قيمة أسمى من التعددية، وهي التسامح، القائم على احترام الآخر والاعتراف به، دون المساس بهويته أو معتقداته.

أما التعددية السياسية، فهي تعني اختلاف وجهات النظر والأيديولوجيات حول كيفية إدارة الشأن العام وتحقيق مصالح فئات سكانية، سواء كانت أغلبية أم أقلية. وفي هذا السياق، فإن الأحزاب العربية في إسرائيل تعبّر عن تنوع سياسي داخل المجتمع العربي، لكنها تتفق جميعها على هدف مشترك: خدمة قضايا وحقوق الأقلية العربية في إسرائيل.

الاختلاف في النهج لا يعني اختلاف في الهدف
رغم التباين في الأساليب والبرامج، تتفق جميع الأحزاب العربية على ضرورة النضال من أجل قضايا أساسية للأقلية العربية، منها: 1) إلغاء التمييز وتحقيق المساواة. 2) توسيع مسطحات البناء وحل أزمة السكن. 3) الحد من العنف والجريمة في المجتمع العربي. 4) رفع مستوى التعليم وزيادة نسبة الأكاديميين العرب. 5) زيادة الميزانيات للسلطات المحلية العربية. 6) الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
غير أن طريقة السعي لتحقيق هذه الأهداف تختلف: أ) القائمة الموحدة تؤمن بإمكانية تحقيق مكاسب من خلال الانضمام للحكومة، شريطة الحفاظ على الثوابت الوطنية. ب) بينما ترى الجبهة، والتجمع، والعربية للتغيير أن العمل من داخل المعارضة البرلمانية يتيح فرصة أكبر للضغط وتحقيق المطالب دون الدخول في تنازلات.

شهد التاريخ نماذج كثيرة لاجتماع أطراف مختلفة فكريًا على هدف مشترك، دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء التعددية:
1. في العهد القديم: استخدم النبي موسى (عليه السلام) الحوار مع فرعون، رغم الفارق الجذري في العقيدة.
2. في العصور الوسطى: جرت مفاوضات بين الخليفة العباسي هارون الرشيد وشارلمان، ملك الفرنجة، رغم التباين الديني والثقافي.
3. في العصر الحديث: نسج السلطان العثماني عبد الحميد الثاني تحالفات مع ألمانيا لحماية الدولة من الأطماع الأوروبية، رغم اختلاف الفكر والمصالح.
4. في التاريخ المعاصر: دعمت الأحزاب العربية بالرغم كونها معارضة، حكومة إسحاق رابين عام 1993 لتسهيل توقيع اتفاقية أوسلو مع الفلسطينيين، رغم أنها لم تكن جزءًا من الائتلاف، وذلك لاقتناعها بأهمية تحقيق مكاسب للشعب الفلسطيني.
كل هذه الأمثلة تُظهر أن التحالفات السياسية لا تُلغي التعددية، بل قد تكون أداة لتعزيز المصالح المشتركة ضمن إطار من التنوع والاحترام.

القائمة المشتركة كنموذج للتنوع الموحد
في ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى القائمة المشتركة باعتبارها نموذجًا يُجسّد التنوّع السياسي داخل إطار وحدوي يخدم مصالح الأقلية العربية. وجود أحزاب مختلفة داخل إطار واحد لا يعني إلغاء االتعددية، بل تنظيمه سياسيًا بما يخدم المصلحة العامة ويعزز من قوة الصوت العربي في الكنيست. القائمة المشتركة، في حال إعادة تشكيلها، يمكن أن تساهم في: أ) زيادة عدد النواب العرب في الكنيست. ب) تعزيز التمثيل السياسي للأقلية. ج) التأثير على عملية اتخاذ القرار. د) بناء أجندة مشتركة دون إلغاء خصوصية كل حزب.

خاتمة
التعددية لا تعني التفرّق، كما أن الوحدة لا تعني الذوبان. من هذا المنطلق، فإن القائمة المشتركة لا تتعارض مع مبدأ التعددية السياسية، بل تمثّل شكلاً من أشكال الشراكة القائمة على احترام الاختلاف وتوحيد الجهود.
إن إعادة تشكيل القائمة المشتركة، بعيدًا عن الحسابات الشخصية والحزبية الضيقة، قد تُمثل فرصة لتعزيز مكانة الأقلية العربية في إسرائيل، ومواصلة النضال من أجل حقوقها السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، ضمن رؤية استراتيجية موحدة.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]