بقلم: إيمان مصاروة ورانية مرجية
مدخل: الأدب الفلسطيني كوثيقة وجودية
يمثل الأدب الفلسطيني ظاهرة استثنائية في المشهد الأدبي العالمي، حيث يلتقي فيه الإبداعي مع السياسي، والجمالي مع النضالي، والذاتي مع الجمعي. إنه ليس مجرد تراكم نصوص، بل ذاكرة حية ومقاومة ثقافية متجددة. النصوص التي تصف هذا الأدب باعتباره "السور الأخير" و"الباب الذي يفضي إلى الغد" تتقاطع مع ما نظّر له غسان كنفاني في أدب المقاومة في فلسطين المحتلة (1968)، وما أسماه فرانز فانون بـ"أدب المعركة" في معذبو الأرض (1963)، حيث تتحول الكلمة إلى أداة في مشروع التحرر الوطني.
لكن هذا التوصيف يفتح سؤالاً نقدياً جوهرياً: هل يمكن اختزال الأدب الفلسطيني في بعده النضالي المباشر؟ هنا تستحضر باربرا هارلو في أدب المقاومة (1987) رؤية أوسع، ترى أن المقاومة قد تتحقق من خلال استراتيجيات سردية وجمالية معقدة، لا بالخطاب المباشر وحده.
ثمانينيات الوجع والإصرار
في حقبة الثمانينيات، كان النص الأدبي ساحة مواجهة موازية للميدان. القصائد خرجت كالرصاص، والمسرحيات حملت صوت المقهور، والروايات وثّقت الذاكرة بدم الشهداء. لم يكن ثمة فصل بين الشاعر والمناضل، فكلاهما يقف على جبهة واحدة. في تلك المرحلة، كانت الكلمة "آخر طلقة وأول وعد"، تتنفس من رئة الشعب وتعود إليه كأغنية صمود.
تسعينيات التحول وبذور التنويع
مع بداية التسعينيات، وبفعل التحولات السياسية والاجتماعية، خفت الصوت الصاخب قليلاً ليظهر البوح الشخصي، والحب، والحنين، لكن دائماً تحت ظل الخيمة. أصبح النص مساحة لالتقاط الحكايات الصغيرة التي تنبثق من قلب النكبة، ليعيد تشكيلها بين الوثيقة والخيال، في انزياح واضح من النبرة الجماعية الصرفة إلى ملامح فردية أعمق.
الألفية الجديدة… تعدد الأصوات وتوسع الفضاء
دخل الأدب الفلسطيني الألفية الثالثة بألوان أكثر تنوعاً. لم يعد الصوت واحداً، بل أصبح نسيجاً من أصوات متعددة، من قلب المخيم إلى منابر العالم. بعض النصوص ظل حارساً للأسوار، وأخرى مدت يدها لقضايا إنسانية كبرى، رابطـة بين المنفى كقدر شخصي والمنفى كقدر جماعي، في تماهٍ مع رؤية إدوارد سعيد في الثقافة والإمبريالية (1997) حول تداخل المحلي بالعالمي في سياق ما بعد الاستعمار.
زمن الرواية ومغامرات السرد
تؤكد دراسات إبراهيم طه (2000) وفخري صالح (2012) أن الرواية الفلسطينية أصبحت الجنس الأدبي الأقدر على احتواء التجربة الفلسطينية المتشظية. عبر تقنيات مثل تداخل الأزمنة وتعدد الأصوات وتفكيك السرديات الكبرى، تجاوزت الرواية الفلسطينية النموذج التسجيلي لتصبح مختبراً لإعادة صياغة الحلم الوطني.
تحولات الشعر: من الهتاف إلى الهمس
تحوّل الشعر الفلسطيني من "قصيدة المنبر" إلى "قصيدة الورقة" كما يرصد صلاح فضل، لكنه لم يفقد روحه النضالية. سلمى الخضراء الجيوسي تشير إلى أن الشعر الفلسطيني، حتى في أكثر لحظاته ذاتية، ظل يوازن بين الجمالي والنضالي، وأن التحول كان في النبرة، لا في الجوهر. صار الشاعر يكتب عن الوطن كما يكتب عن الحبيب الغائب، بلهفة وحرقة وخوف من النسيان.
المنصات الرقمية: كسر القيود أم إعادة تشكيلها؟
مع صعود الفضاء الرقمي، ظهر جيل جديد كتب بحرية بعيداً عن سلطة النشر التقليدي. رصدت نجمة خليل (2018) أن هذا الفضاء أوجد أشكالاً جديدة كالقصة القصيرة جداً والمدونات والنصوص التفاعلية. لكن تحذيرات أدورنو وهوركهايمر في جدل التنوير، وملاحظات عبد الرحيم الشيخ (2019)، تنبه إلى أن التكنولوجيا قد تفتت الخطاب الجمعي وتعيد إنتاج أشكال جديدة من الهيمنة.
تحولات الخطاب من الجماعي إلى الفردي
يشرح لوسيان غولدمان أن الأدب في بداياته كان ناطقاً باسم الجماعة، لكن الحداثة وما تلاها جعلت الفرد محور التجربة الإبداعية. ميخائيل باختين يربط هذا التحول بتغير البنية الاجتماعية والطقوس الجماعية، فيما يرى تشارلز تايلور أن الحداثة هي اكتشاف الذات كمصدر للمعنى. ومع ما بعد الحداثة، كما عند فوكو ودريدا، تتعرض مركزية الذات للتفكيك لصالح فهم أكثر تعقيداً للهوية كنتاج لعلاقات السلطة والمعرفة. في السياق الفلسطيني، يتجلى هذا التحول في المزج بين التجربة الفردية والحكاية الوطنية.
الذاكرة والمستقبل: جدلية مستمرة
إن ثنائية "جرح الأمس" و"أفق الغد" تضع الأدب الفلسطيني في قلب جدلية الذاكرة والمستقبل. وفق ماريان هيرش في جيل ما بعد الذاكرة (2012)، فإن الأجيال الجديدة تعيش ذاكرة موروثة تشكل وعيها بالمستقبل. الذاكرة هنا ليست مخزناً للماضي فقط، بل بوصلة للتوجه نحو الغد، وإن كان التشبث بها قد يعوق أحياناً الانفتاح على احتمالات جديدة. كما يرى نيتشه، فإن النسيان ليس دائماً عجزاً، بل قد يكون شرطاً للإبداع والتحرر.
خاتمة: الأدب كبيت دائم
اليوم، بعد كل هذه التحولات، يبقى الأدب الفلسطيني بيتاً نعود إليه مهما ابتعدنا. تتغير الأشكال والأساليب، لكن الجوهر ثابت: أن نكتب كي نحيا، وأن نحيا كي تبقى الحكاية حيّة. في هذا البيت، تتعانق أغصان الزيتون مع مفاتيح البيوت المفقودة، وتظل الكلمة تمشي حافية القدمين… لكنها لا تتعب من الوصول.
خاتمة شعرية
ها نحن،
كما المقاتل الذي يضع بندقيته بعد معركة،
لا استسلاماً… بل ليمسح عن جبينه غبار الطريق.
نجمع فتات الحكايات
كما تجمع الأم كسرة الخبز،
لتخبز بها غداً جديداً للأطفال.
نكتب…
لنعيد للغيم شكله،
وللريح اسمها،
ونزرع بين السطور شجرة زيتون،
تعرف أن جذورها أعمق من أي منفى،
وأن أغصانها أطول من أي سور.
فما دام في القلب حرف،
وفي الحرف وطن،
ستظل القصة تمشي…
حافية القدمين،
لكنها لا تتعب أبداً من الوصول.
إيمان مصاروة ورانية مرجية
المراجع
تايلور، تشارلز. (2014). منابع الذات: تكوين الهوية الحديثة. ترجمة حيدر حاج إسماعيل. المنظمة العربية للترجمة.
دريدا، جاك. (2000). الكتابة والاختلاف. ترجمة كاظم جهاد. دار توبقال للنشر.
سعيد، إدوارد. (1997). الثقافة والإمبريالية. ترجمة كمال أبو ديب. دار الآداب.
غولدمان، لوسيان. (1993). من أجل سوسيولوجيا الرواية. ترجمة مصطفى المسناوي. دار الحوار.
فوكو، ميشيل. (1990). تاريخ الجنسانية. ترجمة محمد هشام. مركز الإنماء القومي.
لوكاتش، جورج. (1986). نظرية الرواية. ترجمة الحسين سحبان. دار التنوير.
هابرماس، يورغن. (2002). الخطاب الفلسفي للحداثة. ترجمة فاطمة الجيوشي. منشورات وزارة الثقافة.
باختين، ميخائيل. (1981). الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة. دار الفكر للدراسات والنشر.
بابا، هومي. (2004). موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. المركز الثقافي العربي.
بوركهارت، جاكوب. (1985). حضارة عصر النهضة في إيطاليا. ترجمة عبد العزيز توفيق. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أدورنو، ثيودور وهوركهايمر، ماكس. (2002). جدل التنوير: شذرات فلسفية. ترجمة جورج كتورة. دار الكتاب الجديد.
تماري، سليم. (2002). الهوية الوطنية الفلسطينية في عصر العولمة. مجلة الدراسات الفلسطينية، 13(4)، 5-22.
الجيوسي، سلمى الخضراء. (1997). موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
خليل، نجمة. (2018). الأدب الرقمي الفلسطيني: أشكاله وإشكالياته. المؤسسة الفلسطينية للدراسات الثقافية.
دراج، فيصل. (2008). الذاكرة المغلوبة: السرد والهوية في الرواية الفلسطينية. المركز الثقافي العربي.
سعيد، إدوارد. (1993). صور المثقف. ترجمة غسان غصن. دار النهار.
الشيخ، عبد الرحيم. (2019). الثقافة الفلسطينية في العصر الرقمي. مجلة الدراسات الفلسطينية، 30(2)، 45-61.
صالح، فخري. (2012). في الرواية الفلسطينية: من النكبة إلى ما بعد أوسلو. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
طه، إبراهيم. (2000). الرواية الفلسطينية: البنية والدلالة. مطبعة الكرمل.
فانون، فرانز. (1963). معذبو الأرض. ترجمة سامي الدروبي. دار الطليعة.
فضل، صلاح. (2010). أساليب الشعرية المعاصرة. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
كنفاني، غسان. (1968). أدب المقاومة في فلسطين المحتلة. دار الآداب.
هارلو، باربرا. (1987). أدب المقاومة. ترجمة محمد العناني. المجلس الأعلى للثقافة.
هيرش، ماريان. (2012). جيل ما بعد الذاكرة: الكتابة والبصر في ظل الصدمة. ترجمة رشا صالح. المركز القومي للترجمة.
[email protected]
أضف تعليق