بقلم: رانية مرجية
هناك كتب تمر بنا كما تمر الغيوم في سماء الصيف، لا تترك ظلًا ولا مطرًا… وكتب أخرى تهطل علينا كالمطر الأول بعد جفاف طويل، تبلل أرواحنا حتى الجذور، وتزرع فينا حياة جديدة.
ليس كل ما يُغلف بغلاف ويُصفّ على رف المكتبة يستحق أن يُدعى كتابًا، وليس كل ما تُقلّبه أعيننا يستحق أن يلامس قلوبنا. نحن لا نقرأ لمجرد أن نملأ وقتًا، ولا نكتب عن كتاب لنملأ فراغ صفحة. نحن نقرأ لنمتلئ، ونكتب لنفيض.
الكتاب الجيد لا يمرّ بك مرور نسيم خفيف، بل يهبّ على قلبك كريح عاتية، تقتلع ما اعتدت عليه، وتزرع مكانه شيئًا جديدًا. هو الذي يوقظك في منتصف الليل لتدوّن جملة ما زالت تصدح في رأسك، هو الذي يجعلك تعود لصفحة بعينها عشر مرات، لا لأنك نسيت ما فيها، بل لأنك وجدت فيها نفسك.
حين أكتب عن كتاب، فأنا لا أكتب من فراغ، بل من أثر حيّ يسري في دمي منذ أن التقيت نصه. أكتب من ارتجافة أصابعي عند مقطع بعينه، ومن الغصّة التي خنقتني في حواره الأخير، ومن الضوء الذي شعرت أنه تسلل إليّ من بين السطور. الكتاب الجيد يترك فيك ندبة أو وردة… وفي الحالتين لا تعود كما كنت.
ليس كل كاتب مبدعًا، لكن المبدع الحقيقي لا يكتب بالحبر وحده، بل يكتب بدمه، بذاكرته، بأيامه التي عاشها وأيامه التي حلم بها. حين تمسك كتابه، فأنت تمسك قطعة من حياته، وحين تقرأه، فأنت تشاركه نفسه. هؤلاء المبدعون قلة، لكنهم من يمنحوننا سببًا للإيمان بأن الحياة ما زالت قادرة على أن تُروى.
إن الكتاب الجيد لا يقدّم لك حكاية فقط، بل يضعك في مواجهة ذاتك، يعرّيك من يقينك، ويتركك أمام مرآة الأسئلة التي لا تهدأ. ليس زينة مكتبة، بل كائن يتنفس فيك، يحرّك ماءك الراكد، ويوقظ فيك صوتًا كنت تظنه صامتًا إلى الأبد. هو البرق الذي يشقّ ليلك، والمطر الذي ينبت فيك حقولًا لم تعرف أنها موجودة.
وحين تكتب عنه، فأنت لا تكتب تقريرًا، بل تعلن شهادة ولادة جديدة لنفسك. تكتب عن لحظة التماس بين روحك وروح النص، عن الارتجافة التي لم يلحظها أحد، عن النار التي اشتعلت ولم تخمد بعد. وخلف هذا النص هناك مبدع حقيقي، لا يكتب ليملأ ورقًا، بل ليملأ فراغًا في روح العالم.
لذلك، لا تكتب عن أي كتاب لم يهزّك حتى العظم. دع قلمك يكون وفياً للكتب التي غيّرتك، التي تركت فيك أثرًا يشبه الحب الأول أو الفقد الكبير. وحين تكتب، لا تلخص النص، بل احكِ كيف تسلّل إلى قلبك، أين أشعل شمعة في عتمتك، وأين تركك تواجه نفسك بلا أقنعة.
الكتاب الجيد، حين يلتقي بالقارئ الحقيقي، لا يبقى حبرًا على ورق، بل يتحوّل إلى حياة أخرى تعيشها داخلك. وأنت حين تكتب عنه، فإنك تمنحه حياة ثالثة، وتمنح نفسك فرصة أن تُحفر في ذاكرتك وذاكرة الآخرين، لأنك تشهد على معجزة صغيرة… اسمها الكلمة.
إنه فلسفة مصغّرة للحياة: نصٌّ يولد من نص، ووعي يتغذى على وعي، ووجود يكتمل حين يصبح المعنى أكبر من صاحبه. الكتاب الجيد هو سؤال مفتوح، لا إجابة نهائية له، وحضور متجدّد لا ينطفئ بمجرد أن تُغلق صفحاته. وحين تكتب عنه، فأنت تكتب عنك أيضًا، عن المسافة التي قطعتها بين أول جملة وآخر سطر، عن التحوّل الخفي الذي حدث فيك، والذي لا يرصده أحد سواك.
“الكتاب الجيد ليس ما نقرأه، بل ما يقرأنا…
ليس ما نضيفه إلى رفوفنا، بل ما يضيفه إلى أعماقنا…
هو الدليل على أن المعنى لا يسكن النص، بل يولد في المسافة بين الكلمة والقلب.
[email protected]
أضف تعليق