وفي مشوار حياتنا الطويل الذي يحفّه الغموضُ والاكتشاف، ندرك أنّنا نعيش بين مرايا كثيرة، بعضُها زُجاجيٌّ نُصلِحُ به هيئتَنا، وبعضُها بَشريٌّ نَعكِسُ عليه صُوَرَنا لِنَعرِفَ مَن نكون. لكن ماذا عن تلكَ اللحظةِ التي لا يرانا فيها أحد؟ حين نُغلِقُ البابَ ونبقى وحدَنا مع أنفسِنا... كيفَ نبدو؟ هل ما نَراهُ في الداخل يُشبِهُ ما نُظهِرُه في الخارج؟ أَم أنّ بينَنا وبينَ ذواتِنا فجوةً نَخجَلُ أن نَعتَرِفَ بها؟

في غيابِ نظراتِ الآخَرين، تَسقُطُ الأقنعة، وتذوبُ المجاملات، وتَظهرُ حقيقتُنا عاريةً من الزّيف. هناكَ فقط، نَختَبِرُ صِدقَنا، نَسمَعُ أصواتَنا الداخليّة، نُحاكِمُ نوايانا، ونُواجِهُ أنفسَنا كما هي، لا كما نُحبُّ أن نبدو.

المرايا الصامتة لا تُجامِل، لا تُكَبِّرُ الصورة، ولا تُفَلتِرُ التفاصيل. إنّها تلكَ اللّحظاتُ التي نَقِفُ فيها أمامَ ضميرِنا، أو حين نُحَدِّقُ في عُيونِنا بتعبٍ مساءً، أو حين نَكتُبُ لأنفُسِنا بصَمتٍ دونَ نيّةِ النّشر....

نَظُنُّ أحيانًا أنَّ صورتَنا الحقيقيّة تتشكّلُ من نَظَراتِ الآخرين، من إعجابِهم، تصفيقِهم، أو حتى رَفضِهم. نركُضُ لِنَنالَ القَبول، نُحسِّنُ سلوكَنا من أجلِ انطباع، ونُصَمِّمُ كلماتِنا لتَليقَ بالسّياق. لكن! في عُزلةِ الداخل، يَتلاشى الجُمهور، ويَختفي التصفيق، وتَبقَى الحقيقةُ وحدَها في وجهِ الواقع.
أجملُ المرايا هي تلكَ التي لا تَعكِسُ شَكلَك، بل تُريكَ نيّتَك، هواجِسَك، وارتِجافَ قلبِك حينَ تَفعَلُ الخيرَ دونَ أن يَنتبِهَ أحد. حين تُعينُ مُحتاجًا دونَ صورة، تُرَبِّتُ على قلبِ طفلٍ سرًّا لا جَهرًا، تُمسِكُ لِسانَك في لحظةِ غضبٍ دونَ أن تُعلِّمَك الدّنيا أنّك كنتَ الأقوى.

هناكَ، في المرايا الصامتة، نَكتشفُ الفَرقَ بين "مَن نَبدو عليه" و"مَن نحنُ فِعلًا"، بين "ما نَقولُه" و"ما نُؤمِنُ به"، بين "ما نُظهِرُه" و"ما نُخفِيهِ عن العالَم".

ليس سهلًا أن تَنظُرَ إلى نفسِك عاريًا من المُجاملات... ليس سهلًا أن تَعتَرِفَ أنَّك خَذَلتَ نفسَك أكثرَ من مرّة، أو أنّك تَضحكُ في العَلن وتَبكي في الخفاء. لكنّ الصّدقَ مع الذات هو بدايةُ كلِّ شفاء.

فلْتَكُن لكَ لحظاتُكَ الخاصّةُ أمامَ مرآتِكَ الصّامتة فلا تَبحثْ فيها عن الكَمال، بل عن الصِّدق ولا تُحاكِمْ نفسَكَ إن وجدتَ فيها نَقصًا، بلِ احتضِنْها، وافتحْ لها بابَ الإصلاح.

لأنّ أجملَ مَن نكون، هو ذاكَ الذي نَصنعُه في الخفاء، حينَ لا يَرانا أحد، سوى الله، وضَميرِنا، والمرايا التي لا تَكذب.

وخيرُ ما أتحدّثُ عنه هو قلوبُ الأطفالِ الرّقيقة، تلكَ القلوبُ الصّغيرةُ التي تَنبِضُ بالحياة، بل هي مرايا نقيّة لا غِشَّ فيها، لا تصنُّع، ولا زَيف.
حينَ تَنظرُ في عَيْنَي طفلٍ، تَشعرُ وكأنّ العالَمَ كُلَّه توقّفَ لحظة، ليُريكَ حقيقتَك. لا كما تُريد أن تَظهَر، بل كما أنتَ.

الطفلُ لا يُجامِل، ولا يُجيدُ تزييفَ مشاعِرِه، فهو يَراكَ كما يَراكَ قلبُه، لا كما تُريد أن تُقدِّمَ نفسَكَ. إن أحسَنتَ إليه، احتضنَكَ بعَفويّة، وإن ظَلمتَه، لن تَنفَعَكَ ابتسامتُكَ المُصطنعة.

قلوبُهم تعرف...
وعُيونُهم تَفضَح...
هم كالماءِ، إن رَمَيتَ فيه حَجَرًا، لا يُخفي ارتِجاجَه، وإن سَقَيتَه حُبًّا، ارتوى وأزهَر.

لهذا، كلُّ مَن يعملُ مع الأطفال، يَعيشُ أمامَ مرآةٍ مكشوفةٍ دومًا. فالمُعلّمةُ التي تَشرحُ الدروس، لا تُعلِّمُهم فقطِ الحروف، بل تُودِعُ في قلوبِهم أثرًا: هل كانت نَبرَةُ صوتِها حنونةً أم صارخة؟ هلِ اهتَمّت أن تَسألَ عن مشاعرِهم أم اكتفَتْ بالمَنهج؟ هل رأتْ في كلِّ طفلٍ إنسانًا، أم مُجرّدَ رقمٍ على دفاترِ الحُضور؟

والأمُّ، حينَ تَحتضنُ طفلَها، فإنّ احتضانَها لا يُقاسُ بطولِه أو شدّتِه، بل بما يَتردَّدُ في قلبِه من أمان. لأنّ الطفلَ لا يَتذكّر كم لعبةٍ اشتريتَ له، بل كم مرّة نَظَرتَ في عَيْنَيْه باهتمامٍ وهو يُحدّثُكَ عن حُلمٍ صغير أو فكرةٍ غريبة.

إنّهم مرآتُنا الأصدق، لأنّهم لا يَعرِفونَ الكَذب، ولا يُجيدون "المُجاملات البيضاء" التي يُتقنُها الكِبار. فهم يُحبّونَكَ لذاتِكَ، لا لمنصِبِكَ، ولا لعلمِكَ، ولا لمَظهَرِكَ، بل لِحَنانِكَ، لِصِدقِكَ، ولِدِفءِ حُضورِكَ.

كم من كلمةٍ قاسيةٍ قُلناها على عَجَلة، فاستقرّتْ في مرآةِ طفلٍ وانكَسَرت؟
وكم من ابتسامةٍ حقيقيّةٍ مَنحتَها لصغيرٍ، فعادَت إليكَ دفئًا في وقتٍ لم تكن تَتوقّعُه؟

الأطفالُ لا يَنسَون، ليس لأنّهم يُصِرّون على التّذكّر، بل لأنّ ما يُقال أمامَهم، وما يُفعَل معهم، يُنقَش في مرآةِ أرواحِهم. فإمّا أن تُضيءَ هذه المرآةَ بِبَصمتِكَ النقيّة، وإمّا أن تُعكّرَها بأثَرٍ يَبقى رغمَ الاعتذارات.

في عالمٍ تتكاثرُ فيه الصُّوَر، وتَغيبُ فيه الحقيقة، يظلّ الأطفالُ النورَ الصّافي الذي يُعيدُنا إلى أنفسِنا. يَكفينا أن نَقِفَ لحظة، نَتأمّلَ عُيونَهم، لِنكتشف: هل نحن كما نُحبّ أن نكون؟ أم أنّنا بحاجةٍ إلى صَقلِ مرايانا الداخليّة، حتى لا نَعكِسَ أمامَهم سوى الخير، والصِّدق، والحُبِّ الحقيقيّ...

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]