بقلم: رانية مرجية
في زمنٍ تتكدّس فيه الكلمات كما تتكدّس البضائع على رفوف المتاجر، وتُستهلك اللغة دون شغف أو مساءلة، بات التمييز ضروريًا، بل مصيريًا، بين من يكتب كي يُحيي، ومن يكتب كي يُرضي.
بين من يُنقّب عن المعنى في رماد التجربة، ومن يعيد تدوير الكلام كأنّ الذاكرة مجرّد مومياء يُعاد دفنها كلّ مرة في قالب جديد.
نقف اليوم على مفترقٍ حادّ في المشهد الأدبي والثقافي:
فثمّة مجدّدون يجرّون اللغة خلفهم إلى أرضٍ مجهولة، يروّضونها لتقول شيئًا جديدًا، مختلفًا، قاسيًا، وربما مزعجًا.
وثمّة مجترّون يلوكون عباراتٍ مستهلكة، يزرعون السطور بإيقاعات محفوظة، ويتقنون تدوير الشجن بلا وجدان.
المجدّد لا يخاف من كسر النمط، ولا من خيانة التقاليد حين تصير عبئًا على المعنى.
هو كاتبٌ يعيد اختراع اللغة، لا يكرّرها.
يرى في كل كلمة امتحانًا للصدق، لا مجرد أداة بلاغية.
ومن بين هؤلاء القلّة الذين لا يُهادنون، لا يُزيّفون، ولا يتواطأون مع التعبير الباهت، أجدني أقف بخشوع أمام تجربة أستاذي الشاعر تركي عامر، الذي لا يكتب الشعر، بل يخلقه.
في نصوص أستاذي تركي عامر، نسمع الكلمات وهي تئنّ من فرط صدقها، وتتمرّد على التجميل.
إنه من أولئك القادرين على أن يحوّلوا الوجع إلى بيان، واللغة إلى حقل ألغامٍ جماليّ، والقصيدة إلى احتجاجٍ ناعمٍ وشرس في آن.
هو شاعر لا يكتب لإرضاء القارئ، بل ليوقظه.
ولا يكتب ليُجمّل الحقيقة، بل ليمسكها من عنقها، ويضعها كما هي على طاولة اللغة.
أما المجترّ، فهو من لا يرى في الكتابة إلا وسيلة تزيينية، يلوك تجارب غيره، ويقدّمها في طبقٍ من البلادة.
لا يتورّط مع اللغة، بل يمرّ بها كما يمرّ السائح على أطلالِ مدينة، يلتقط صورًا، دون أن يُدرك وجع المكان.
نحن لا نحتاج لمن يُعيد علينا نشيد الحنين ألف مرة، بل نحتاج لمن يقول شيئًا جديدًا عن الحنين، أو ينسفه إن لزم الأمر.
لا نحتاج “شعراء مناسبات”، بل كتّاب وجع.
لا نحتاج لمن يُعطّر اللغة، بل من يُفجّرها.
فالمعنى لا يُولد من التكرار، بل من الجرأة.
لقد آن الأوان لنُعيد مساءلة ما يُنشر، وما يُصفّق له، وما يُدرّس في المنابر، وما يُحتفى به رغم خوائه.
آن الأوان لنقول بصوت واضح:
ليس كل من كتبَ، كتبَ.
وليس كل من حاكى، أبدع.
المجدّد يجرح ليُنبّت،
والمجترّ يلمّع ليُخدّر.
وبين الجرح والتخدير،
تتحدّد هوية الأدب، وكرامة القارئ.
[email protected]
أضف تعليق