انتهت المعركة بين إسرائيل وإيران صباح الثلاثاء، معركة بدأت بسلسلة استهدافات إسرائيلية لقيادات ومنشآت في إيران يوم الثالث عشر من الشهر الجاري، وانتهت برشقة صاروخية إيرانية أخيرة على مواقع عديدة في إسرائيل تسببت بوفيات وإصابات وأضرار. حرب تخللها تدخل أمريكي لضرب المنشآت النووية الإيرانية، ورد إيراني بقصف قاعدة عسكرية أمريكية في قطر. حربٌ كادت أن تتدهور إلى حرب إقليمية قبل نجاح الوساطة الأمريكية-القطرية لوقفها، وانتهت، حتى الآن، بأضرار كبيرة في الجهتين. فقدت إيران قادة وعلماء مهمين، وتعرضت منشآتها النووية لقصف شديد، وتعرضت منشآت عديدة فيها لضربات أيضًا، بينما تعرضت بعض المواقع في إسرائيل لدمار شديد وغير مسبوق جراء الصواريخ الإيرانية، التي تسببت بمقتل وإصابة العشرات أيضًا.

لكن بجانب المعركة التي كانت في الأجواء، والتي ستكثر التحليلات عن هوية الطرف المنتصر وهوية الخاسر، فكلا الطرفين يدعيان الانتصار بالحرب حتى الآن، بجانب هذه المعركة، كانت هناك معركة أخرى، معركة الوعي. إسرائيل، التي طالما افترضت أن الشعوب العربية تكره إيران أكثر مما تكرهها، فوجئت أن الرأي العام العربي لم يقف معها. بل على العكس: المواقف الشعبية بسوادها الأعظم، من الخليج إلى شمال إفريقيا، أظهرت تململًا واضحًا من إسرائيل، وتفهمًا لإيران، حتى لو لم يتحول هذا التفهم في بعض الحالات إلى دعم مطلق.
الرد الإيراني لم يكن مفاجئًا فقط عسكريًا، بل رمزيًا. إذ بدا في المخيال الشعبي كأنها أول مرة تقابل فيها إسرائيل بردّ مباشر بهذا الحجم، من دولة، لا من فصيل، منذ حرب يوم الغفران عام 1973. ومع أن هذه ليست المرة الأولى التي ترد فيها طهران – فقد سبق أن أطلقت صواريخ بعد اغتيال السفير الإيراني في دمشق، وردّت بشكل محدود بعد مقتل إسماعيل هنية وحسن نصر الله – إلا أن هذه الحرب الأخيرة قلبت الموازين فعلًا.

قبل 13 حزيران، كانت صورة إيران في العالم العربي تعاني من تراكم طويل من الرفض والشك. تدخلها في سوريا، الذي جعلها مكروهة من كل من عارضوا نظام الأسد، دعمها للحوثيين في اليمن ضد السعودية ودول الخليج، علاقتها المعقدة والمركبة بالعراق وعداء قسم من العراقيين، خصوصًا السنّة وأتباع نظام صدام حسين لها، علاقتها مع حزب الله في لبنان، وعداء كل من يعارض حزب الله لها، وتحكم هذه الأطراف أو الدول التي عادتها بوسائل الإعلام وبمنصات عديدة أخرى والتي ساهمت بتعميق الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة وتعميق العداء لإيران. لكن الجولة الأخيرة هذه، بالإمكان القول إنها غيّرت السياق. كثيرون من العرب، الذين عايشوا صدمة الحرب على غزة، لم ينظروا إلى إيران باعتبارها خطرًا كما حاولت جهات عديدة لسنوات أن تصورها، بل باعتبارها الطرف الوحيد الذي رد على إسرائيل وشفى غليل العرب والمسلمين منها.

ناشط لبناني فضّل أن يبقى اسمه مخفيًا، قال في هذا السياق: "الجمهورية الإسلامية فعلت ما لم تفعله أي دولة عربية. شعبيّة إيران ارتفعت عند الشعوب العربية. لقد غيرت هذه الحرب نظرة الشعوب العربية تجاه إيران بعدما دأبت الأنظمة العربية والغرف السوداء العالمية، لأكثر من عشرين عامًا، على تشويه صورتها وشيطنتها. سقطت الأقنعة، وتبددت الأكاذيب، وبدأت الشعوب تميز بين من يحمل همّ الأمة، ومن يبيعها في أسواق الذل والتبعية لأمريكا وإسرائيل".

هذا التحوّل جاء تزامنًا مع خذلان شديد تشعر به الشعوب العربية من أنظمتها، التي لم تحرك ساكنًا منذ أكثر من عام ونصف على حرب الإبادة في غزة، ومن المجتمع الدولي الذي يفاخر بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكان متواطئًا أو صامتًا. في هذا الفراغ، بدا الرد الإيراني كفعل نادر وغير اعتيادي.

الموقف المصري: المؤشر الأوضح
من بين كل المجتمعات العربية، عبّر المزاج المصري عن التحول بشكل أكثر وضوحًا. لم يكن الأمر موقفًا رسميًا، بل تغيّرًا في نبرة الإعلام والشارع.
إعلاميون كانوا في السابق يهاجمون إيران ويتبنون خطابًا خليجيًا تقليديًا، ظهروا فجأة وهم يتحدثون عن "رد فعل مشروع" و"ضربة موجعة لإسرائيل". ضباط متقاعدون، معروفون بارتباطهم بالمؤسسة العسكرية، تحدثوا بإيجابية عن قدرة إيران على الرد، وانتشرت مقاطع أرشيفية للصحافي المصري الراحل محمد حسنين هيكل وهو يشيد بإيران الثورة.

ما جعل هذا التحوّل لافتًا ليس فقط موقف الإعلام، بل الجدل الشعبي بين المصريين والخليجيين على مواقع التواصل. سعوديون اعتبروا تقارب القاهرة مع طهران (الذي سبق هذه الحرب) خيانة، فردّ المصريون: نحن مع من يضرب إسرائيل، لا مع من يمدها ويمد ترامب بالملايين.
الكاتب المصري الليبرالي سامح عسكر رد على هذه الانتقادات التي تعرض لها خلال تحليله للتطورات، قائلًا: "لا أنكر أنني منحاز لوجهة نظر ضد إسرائيل والاعتداءات الأمريكية بشكل عام، لكن في ذات الوقت أنكر تأثير هذا الانحياز على قراءاتي السياسية والفكرية، فهذا شيء وهذا شيء مختلف... معظم الحسابات التي تنتقدني هي سعودية أو سورية، مؤيدون لإسرائيل والولايات المتحدة. اتهامهم صادر عن انحياز تأكيدي للخصم، وبالتالي فلا معنى له، فهو صادر من منحاز أيضًا، لا يملك رؤية دقيقة علمية للوضع".

وهنا يكمن جوهر المسألة: الموقف المصري لم يكن تأييدًا لإيران بقدر ما كان تعبيرًا عن سخط مكتوم تجاه إسرائيل، وتجاه السياسات الخليجية التي بدت متصالحة معها أكثر مما هي متعاطفة مع غزة.

ليس فقط في مصر، بالإمكان القول، إن المواقف في دول شمال أفريقيا كانت بمعظمها مؤيدة علنًا لإيران، حتى في المغرب، وطبعًا مواقف الفلسطينيين، وقسم كبير من الأردنيين، واللبنانيين الشيعة والمؤيدين للتيار الوطني، والسوريين غير الداعمين للنظام الحالي، والعراقيين الشيعة، والعمانيين، واليمنيين، وقسم من شعوب الخليج.


انهيار فرضية "المسرحية"
لطالما راجت في بعض الأوساط العربية نظرية أن الصراع الإيراني–الإسرائيلي مجرد مسرحية. لكن هذا الطرح تلقّى ضربة قوية بعد التصعيد الأخير. الضربات كانت حقيقية. التكلفة كانت فعلية وكبيرة للطرفين، وهذه الحقيقة لم تمر مرور الكرام في الشارع العربي. أضاف الناشط اللبناني: "لم يعد هنالك مجال للحديث عن مسرحية، فلا أحد يدفع هذا الثمن من أجل مسرحية. هو صراع حقيقي بين طرفين، أحدهما لا يزال يُعامل كقوة فوق القانون ويُسكت عن أفعاله في غزة، ثم لماذا ستقوم إيران بمسرحيات على العرب؟ كان بإمكانها، بالنفط الذي بحوزتها والعقول التي تملكها، لو لم تحمل راية فلسطين والعداء للغرب منذ الثورة الإسلامية، ويعرضها هذا لعقوبات عديدة، كان بإمكانها أن تبقى في حضن الغرب بلا عقوبات وأن تنافس سنغافورة اليوم".
انهيار هذه الفرضية ليس مجرد نقاش على فيسبوك، بل هو نهاية لنوع من التبرير الداخلي الذي اعتمدت عليه كثير من الأصوات المعارضة لإيران لتبرير موقفها السلبي منها. ما حدث ألغى منطقة الراحة هذه، وأجبر الجميع على إعادة التقييم.


حديث نبوي!

في خلفية هذا التحول، ظهر أيضًا تأويل ديني لافت. كثير من المعلقين العرب استعادوا الآية الكريمة: "وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ"-صدق الله العظيم، والحديث المنسوب للنبي محمد حين أجاب على سؤال حول من هم القوم، أشار إلى الصحابي سلمان الفارسي: "هذا وقومه، لو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس" وهو  حديث صحيح، وقد أخرجه الترمذي وابن حبان وغيرهما.

كان هذا التأويل أشبه برسالة ضمنية: حين تخلّى العرب عن دورهم في الدفاع عن المستضعفين أو عن المسلمين، ظهر من يسد الفراغ. وهم الفُرس.


قرأت خلال أيام الحرب منشورًا "للمؤثر في مواقع التواصل"،  "ناس ديلي"(نصير ياسين)، وهو من سكان عرابة بالجليل، ويُنتقد عربيًا بأنه مؤيد لإسرائيل على حساب هويته الفلسطينية. المهم أنه يقول في مقاله إن "العالم العربي احتفل بصمت" بعد القصف الأمريكي على إيران. والحقيقة أني استغربت من هذا التحليل، فهو لا يكشف فقط الانفصال عن الواقع، بل عن تعزيز للوهم الإسرائيلي القائل بأن الشعوب العربية، لمجرد كراهيتها لإيران، ستقف تلقائيًا مع إسرائيل. محاولة لدغدغة المشاعر الإسرائيلية ليس أكثر.

فما حدث في الأسبوعين الأخيرين، كشف العكس تمامًا. الصمت العربي الرسمي قابله تعاطف شعبي واسع – لا مع إيران كدولة، بل مع الفعل ذاته. ومع كل ضربة على إسرائيل، شعر كثير من العرب أن ميزان الرد وُجد أخيرًا، وأن الغطرسة الإسرائيلية ليست قدَرًا أبديًا.
هذه القراءة المغلوطة ليست حكرًا على "ناس ديلي"، بل جزء من خطاب أوسع يُفترض أن عداء بعض العرب لإيران أهم من الدم المهدور في غزة. وهذا افتراض لم يصمد. في الواقع، بدت غزة هي المعيار الأخلاقي، وكل من سكت عنها فقد شرعيته في الشارع العربي، سواء كان حاكمًا أو مذيعًا أو حتى ناشطًا رقميًا.

رهانان خاسران لإسرائيل
الخطأ الإسرائيلي لم يكن في التقليل من قوة إيران فقط، بل في سوء فهم بيئتها. إسرائيل راهنت على أن اغتيال العلماء، واستهداف المنشآت، والعقوبات الاقتصادية، ستدفع الشارع الإيراني للانفجار ضد النظام. لكن ذلك لم يحدث. بل العكس، حتى الكثير من المعارضين للنظام الإيراني الحالي، وقفوا بجانبه، والتأييد لرد إيراني قوي كان كبيرًا، ويُترجم الآن بمشاهد الاحتفالات في طهران. فحتى من يعارضون المرشد الأعلى في إيران، وحتى من يكرهونه، لم يقفوا مع دولة تعتدي على بلدهم وتحاول فرض واقع جديد عليها. وكل محاولات إسرائيل لمخاطبة الشعب الإيراني دون قيادته، ولمحاولة عودة الحديث عن رضا بهلوي، نجل شاه إيران المخلوع، لم تخدمهم كثيرًا.
والخطأ الثاني كان الاعتقاد أن الشعوب العربية ستصفّق لذلك. لكنها لم تفعل. حتى إن الرأي الشعبي العربي لم يكن محايدًا. بل كان متحيزًا، من موقع الجرح، لمن ردّ على من ينفذ إبادة جماعية. ربما لو كانت هذه الحرب مع إيران قبل سنوات، قبل الحرب مع غزة، كان الأمر سيبدو مختلفًا قليلًا. الشعوب العربية لطالما اعتبرت إسرائيل عدوها الأول، لكن الأمر تغيّر قليلًا في السنوات الأخيرة، بعد اتفاقيات إبراهام، وبعد الأزمات داخل بعض الدول العربية، ومحاولة بعض الجهات إبراز إيران كعدو أخطر للعرب. لكن الحرب المستمرة على غزة، الإبادة والتجويع، حسمت الموقف الشعبي العربي بوضوح، ضد إسرائيل.

انتهت الحرب، والحسابات القليلة التي كانت تؤيد إسرائيل خلالها، الآن بدأت تسخر من إيران، بأنها لم تشمل غزة في اتفاق وقف إطلاق النار. في رده على هؤلاء كتب ناشط فلسطيني: "إلى كل الذين يقولون إن إيران تخذل غزة بقبولها وقف إطلاق النار! أنتم جالسون في دول تموّل الإبادة، وتتهكمون على إيران؟! ماذا جرى؟ ألم تكن إيران بالأمس 'رافضية فارسية'؟! لنكن واضحين: المحور الشيعي – نعم، أقولها بصراحة 'الشيعي'، وأنا سُنّي فلسطيني – قدّم لنا، نحن أهل فلسطين، أعزّ ما يملك: من قادة، ومن دم، ومن سلاح… فلتسألوا: هل قدمتم أنتم ربع ما قدم الشيعة والفرس لغزة؟! نفاقكم بلغ حدًا لا يمكن تحمله".

تميم البرغوثي: إيران ظُلمت من قبل العرب

الشاعر الفلسطيني، تميم البرغوثي، الذي تعرض لانتقادات في الفترة الأخيرة، لتأييده لإيران في ردها على إسرائيل، ولحزب الله من قبلها، ولانتقاده مواقف الرئيس السوري الجديد، الشرع، وذلك بعدما كان البرغوثي محسوبًا على معارضي بشار الأسد، اعتبر أن إيران ظُلمت من قبل العرب منذ سنوات وما زالت، وكتب: "ثار الإيرانيون على الشاه حليف إسرائيل، طردوا السفارة الإسرائيلية وأهدوها لمنظمة التحرير. كيف كافأهم العرب؟ غزاهم صدام حسين بدعم من دول الخليج وتهليل عربي، واستمرت الحرب ثماني سنين، قتل فيها مليون نفس، نصفهم من المدنيين. ثم لما حوصر صدام وحلفاؤه العرب، لم يجد إلا إيران يرسل إليها طائراته لكي لا تُقصف على الأرض. أسست إيران المقاومة الإسلامية في لبنان ودعمتها، رغم غزو العراق للأراضي الإيرانية، واستمرت في دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية معًا. كيف كافأها العرب؟ بمحاولة حصار فكرتها الثورية في العرق والمذهب، فقالوا شيعة وسنة، وعرب وفرس، مع أنهم كانوا حلفاء شاه إيران، ولم يبالوا وقتئذ بالعرق والمذهب. وتذكروا أن يغضبوا للصحابة الذين يشتمهم بعض الشيعة (لم يتذكروهم وقت الشاه)، ولكنهم حالفوا دولًا يرمي جنودها المصاحف في المراحيض، وطبعوا مع من يسبون النبي عليه الصلاة والسلام نفسه في كل عيد لهم! ومع ذلك كله، فحين استغاث الفلسطينيون وهم عرب مسلمون سنة، لمن يحبون التصنيف المذهبي، لم ينجدهم عسكريًا إلا إيران وحلفاؤها، ولم يأتهم من كثير من المدافعين عن السنة إلا السباب والشماتة في الشهداء. لا ينكر الفضل إلا كافر جاحد. في هذه الحرب، إيران على حق محض، وأعداؤها على باطل محض. وفي الحروب الماضية، كل من حاربها للمذهب أو العرق فقد أضرّ نفسه، وسفك دمه، وهدم بيته، ونصر عدوه على صديقه".


ما تجاهلته إسرائيل هو أن الشارع العربي ليس جاهزًا للاصطفاف ضد إيران في ظل حرب إبادة واضحة في غزة. الرأي العام العربي يمكن أن يكون ناقدًا لإيران، لكن لا يمكنه أن يتجاهل مجازر يومية تُبث على الهواء مباشرة. أمام هذا المشهد، باتت كل التحالفات باهتة، وكل الرهانات مكشوفة.
والشارع العربي، وسط كل القهر والانقسام، أظهر مرة أخرى أنه ليس كما تتخيله مراكز البحث في تل أبيب أو واشنطن. لا يصفق لمن يقتل أبناء جلدته، ولا ينسى من يرد عليه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]