غزة تحت الحصار والنار وكأن الزمن توقّف في هناك، يُعدّ أيامه بجراح لا تندمل، ويُسجّل أوقاته بصوت المدافع وصرخات الفقد. لم تكن الحرب مجرد معركة عسكرية، بل زلزالًا إنسانيًا خلخل أساسات الحياة وأربك موازين البقاء. في كل حيّ من أحياء غزة، قصة فجيعة، وفي كل ركن من أركان البيوت المهدّمة، ذاكرة لطفل أو امرأة أو شيخ رحل دون وداع. عشرون شهرًا من النزيف جعلت من كل يوم اختبارًا للصبر، ومن كل ليلة معركة مع الحصار والخوف والمجهول.
غزة اليوم ليست فقط مدينة منكوبة، بل شهادة حية على فشل العالم في وقف المأساة، وعلى عجز المنظومة الدولية عن إنقاذ البسطاء من طاحونة الحرب. الكرامة لم تُنتَهَك فحسب، بل سُحقت تحت أقدام الصراعات السياسية والمصالح المتضاربة، وأصبحت الحياة الطبيعية ترفًا بعيد المنال لأهل غزة الذين تعلّموا أن يرمّموا أرواحهم من بين الأنقاض، وأن يزرعوا الأمل في تربة اليأس.
هذه الحرب، بكل ما فيها من دمار، لم تقتل الأرواح فقط، بل اغتالت أيضًا أحلام الأمهات في تعليم أطفالهن، وأحلام الشباب في مستقبل كريم، وأحلام الشيوخ في عيش ما تبقّى من أعمارهم بسلام. وما يجري ليس مجرّد صراع بين طرفين، بل ظلم مركّب يتراكم على شعب يطالب فقط بحقه في الحياة بكرامة.
دعوة صريحة لإنهاء الحرب... لا مفر من الوضوح من هذا المنطلق، فإن المسؤولية الأخلاقية والسياسية تقع على عاتق كل ناشط محلي أو دولي يمتلك القدرة على التأثير في مجرى الأحداث. لم تعد بيانات الإدانة تكفي، ولم تعد الوعود البراقة تشفي جراحًا مفتوحة تنزف يوميًا في شوارع غزة وأزقتها. المطلوب اليوم موقف واضح، لا يحتمل التأويل أو المماطلة، يُنهي هذا النزاع الدموي ويوجّه البوصلة نحو السلام العادل والمستدام. الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي لم يتردد في إعلان نهاية الحرب بين إيران وإسرائيل، مطالب اليوم باتخاذ موقف مماثل، لا يقل حزمًا أو وضوحًا، تجاه ما يحدث بين إسرائيل وحماس.
غير أن الفلسطينيين، الذين جرّبوا خيبات المراهنات على الخارج، لا ينتظرون من أحد أن يمنّ عليهم بسلام مشروط أو مُفرغ من المضمون. لا نحتاج إلى خطابات، بل إلى خطوات؛ إلى تحرك ملموس يُعيد للفلسطيني كرامته ويضمن له حقه في الأمن، والتنقل، والعمل، والتعليم، والعيش الكريم. لا نريد أن نُختزل في تقارير الإغاثة، أو أن تصبح مجرد عناوين تتنقل بين شاشات الأخبار. الفلسطيني هو إنسان، له أحلام، وله وطن يتوق لأن يعيش فيه بحرية، مثل أي شعب على وجه هذه الأرض.
وفي هذا السياق، فإن أي إعلان لنهاية الحرب لن يكون ذا معنى إن لم يُترجم إلى خطة حقيقية تُنهي الحصار، وتعيد الإعمار، وتفتح الآفاق أمام مشاركة سياسية فلسطينية عادلة وشاملة. لقد ولى زمن الحلول المجتزأة، وآن أوان المقاربات التي تنبع من جوهر الحق الفلسطيني وليس كملف أمني، بل كقضية تحرر وعدالة.
بين التغييب والتشويه: خطر تسويات لا تمثل الفلسطينيين ما لم تكن التسوية تعكس بصدق إرادة الشعب الفلسطيني، وتنطلق من أولوياته الوطنية العميقة، فإنها تكون مجرد محطة أخرى على طريق التيه والانقسام. لقد أُنهك الفلسطينيون بتجارب سابقة حُشرت فيها مصالحهم بين رهانات إقليمية وأجندات فئوية. لذلك، فإن أي مقترح يهدف إلى إنهاء حكم حماس يجب أن لا يُستخدم كذريعة لفرض وصاية خارجية أو فرض نموذج سلطوي جديد، بل يجب أن يُعتبر مدخلًا حقيقيًا لإنهاء الانقسام السياسي والجغرافي، ولمّ شمل الجسد الفلسطيني الممزّق منذ سنوات.
إن ما نحتاجه اليوم ليس بديلًا حزبيًا عن حماس، ولا سلطة تفتقر إلى الشرعية الشعبية، بل مشروع وطني فلسطيني جامع، يتأسس على التعددية، ويستند إلى التوافق، وتديره قيادة مؤسساتية نزيهة وشفافة. مشروع يرى في كل فلسطيني فاعلًا لا تابعًا، ومواطنًا لا مجرد متلقٍّ للأوامر. فقط في إطار كهذا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي، يجد فيه المواطن مكانًا آمنًا للتعبير عن رأيه، ومجالًا فسيحًا للمشاركة في صنع القرار، دون خوف أو تهميش.
أما الخطوات العملية على الأرض، فلا بد أن تبدأ بمبادرة شجاعة من حماس تلقي فيها السلاح وتفرج عن الرهائن، ويُقابل ذلك التزام حقيقي من إسرائيل بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة متوازنة قائمة على مفاهيم العدالة لا الثأر أو الضغط السياسي. يجب أن تتم هذه الخطوة في إطار احترام الكرامة الإنسانية، مع توفير مخرج آمن للمقاتلين الراغبين في المغادرة، دون أن يكون ذلك مقدمة لتجريم النضال الفلسطيني أو شطب حقه المشروع في مقاومة الاحتلال، كما أقرّته القوانين الدولية والشرعية الأممية.
استعادة الوحدة يجب ات يكون عبر حكومة انتقالية نزيهة وتشكيل حكومة مؤقتة في غزة تمثل الكفاءة والنزاهة, سيكون خطوة تاريخية نحو إعادة ترميم الثقة المفقودة بين الشارع الفلسطيني والمؤسسات السياسية. إن هذه الحكومة، بقدر ما تُبعد نفسها عن الحسابات الفصائلية الضيقة، يجب أن تُجسد رؤية وطنية تتجاوز الانقسام وتضع في صلب أولوياتها وحدة المشروع الفلسطيني.
يجب أن تكون حكومة تقوم على الشراكة لا على الإقصاء، تضم شخصيات مهنية ومستقلة قادرة على إدارة الملفات المعقدة التي راكمتها سنوات الحصار والانقسام، من إعادة الإعمار إلى إصلاح البنية الإدارية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الحكومة لا تسعى إلى ديمومة سلطتها، بل تُمهد السبيل لانتخابات عامة تُعيد للمؤسسات طابعها التمثيلي، وتُرجع للشعب الفلسطيني صوته في تحديد مستقبله السياسي.
ما يُنتظر من المجتمع الدولي هو الدعم الإقليمي والدولي، لكي يكون فاعلًا ومقبولًا، يجب أن ينبع من احترام الإرادة الفلسطينية لا من فوقية أو منطق الإملاء. الفلسطينيون سئموا من المبادرات المغلّفة بمصالح الآخرين. ما نحتاجه هو دعم سيادي لا وصاية أمنية، شراكة لا رقابة. إرسال قوة عربية بالتعاون مع قوة فلسطينية وطنية قد يكون مدخلًا لترسيخ الأمن، بشرط وضوح التفويض، توقيته، واحترامه للإرادة الشعبية الفلسطينية.
مفتاح الاستقرار وشرط النجاح لا يمكن لأي دعم خارجي أن يثمر في ظل الحصار الخانق المفروض على غزة. لقد دمّر الحصار مفاصل الاقتصاد، وشرّد الأسر، وعطّل الأحلام. كل خطوة نحو إعادة الإعمار أو التهدئة أو الانتخابات ستبقى شكلية ما لم يُرفَع الحصار بالكامل، ويُفتَح المجال لغزة لتتنفس من جديد. فتح المعابر والانسحاب الإسرائيلي الشامل ليسا هبة، بل حقوق ثابتة تفرضها العدالة الإنسانية.
الأمن لا يُبنى على دمار البيوت ولا يولد من فوهة دبابة. الأمن الحقيقي يولد من العدالة، والسيادة، ومن مشاركة الشعوب في قرارها ومصيرها. آن الأوان لإعادة تعريف الحل: ليس وقفًا لإطلاق النار، بل بناء مشروع حياة. آن الأوان أن نرفع الصوت من داخلنا، ونقول للعالم بصوتٍ عالي وواضح: كفى.
[email protected]
أضف تعليق