بقلم: رانية مرجية

في عالم بات فيه القلق رفيق الإنسان، والخوف خبزه اليومي، وبينما يتسابق السياسيون والخطباء ورجال الدين لإقناع الشعوب أنهم يملكون مفاتيح السلام، يغيب عن أذهان الكثيرين أن السلام الحقيقي لا يُمنح بمرسوم، ولا يُفرض باتفاقية، ولا يُستجدى من دول عظمى تنهش كرامة الضعفاء. السلام الحقيقي، ذاك الذي يستقر في القلب ويزهر في الروح، لا ينبع إلا من مصدر واحد: الله.

قد يبدو هذا الطرح للبعض تبسيطاً مفرطاً، وربما ترفاً روحياً لا مكان له في صخب الحروب والمجازر والمآسي اليومية التي نحياها، نحن أبناء هذه الأرض المقدسة المنكوبة. ولكن فلنتمعّن قليلاً: ألم يقل السيد المسيح، وهو يخاطب تلاميذه في لحظةٍ من أصعب لحظات التاريخ البشري: “سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا”؟ (يوحنا 14: 27). تلك الكلمات لم تكن شعراً ولا وعداً سياسياً بل كانت إعلاناً عن حقيقة أبدية: أن السلام الربّاني لا يُشبه السلام الذي يمنحك إياه البشر، لأنه لا يُقاس بالهدنة ولا يُرهن باتفاقيات مؤقتة.

فالسلام الذي يأتي من الله لا يحتاج إلى أسلحة لحمايته، ولا إلى جيوشٍ لحراسته. إنه ذاك الاطمئنان العميق الذي يُسكن الروح رغم الضجيج، ويجعل القلب يطمئن حتى وهو يسير في وادي ظل الموت. هو ذاك السلام الذي يشعر به الطفل الجائع حين تضمّه أمه وتصلي، وتهمس له “الله معنا”. وهو ذات السلام الذي شعرت به الجدّات الفلسطينيات حين كنّ يغزلن المطرزات في بيوتٍ تهدمت، ويُصلين ليس من أجل الانتقام، بل من أجل الرحمة.

وكم نفتقد اليوم لهذا النوع من السلام!
نبحث عنه في مؤتمرات كاذبة، ونرجوه من عواصم الاستعمار، ونبني له معابد من التصريحات والوعود، ولكننا نتجاهل منبع السلام الأول، ذاك الذي قال في سفر إشعياء: “لأن الجبال تزول والآكام تتزعزع، أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمكِ الرب” (إشعياء 54: 10).

إن السلام الحقيقي يبدأ حين نصالح ذواتنا، حين نكف عن جلد أرواحنا، حين نغفر ونُسامح، لا ضعفًا بل قوة. يبدأ حين نعترف أننا لا نملك السيطرة على كل شيء، وأن التسليم لله لا يعني الاستسلام بل يعني الثقة العميقة بمن خلق الكون بحكمة ومحبة.

نعم، السلام لا يعني أن نتجاهل الظلم، بل يعني أن نواجهه بلا كراهية.
السلام لا يعني أن نعيش في صمت، بل أن نرفع صوت الحق دون أن نفقد محبتنا للإنسان.
السلام ليس موتًا للعاطفة، بل حياة للضمير.
السلام لا يكون إن لم يكن مصدره الله، لأن الله وحده لا يتغير، لا يخون، لا يساوم، ولا يعقد صفقات على حساب الفقراء والمظلومين.

فيا من تبحثون عن السلام في مؤتمرات الدول، التفتوا أولاً إلى أنفسكم، ابحثوا عن الله في صلواتكم، في وجوه أطفالكم، في دموع أمهاتكم، في صوت المعذبين والمهجرين. هناك فقط ستجدون السلام، سلامًا لا يستطيع العالم أن ينزعه منكم، لأنه مغروس في العمق، منقوش في القلب، ومحفوظ بيمين الرب.

ولعل أكثر ما نحتاجه اليوم، في خضم الحروب والأزمات والخذلان العربي والدولي، هو أن نرفع رؤوسنا نحو السماء ونهمس من الأعماق: “يا ربّ، أعطنا سلامك، لا سلام العالم… سلامك وحدك يكفينا”

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]