الشيخ محمد سليمان

علمنا التاريخ أن الساسة والنخب متفاوتون في نطاق الذكاء والإدراك المعرفي والحكمة والرقي النفسي والسلوكي، وحتى لا ندلف إلى دهاليز الأمثلة التاريخية، سأصب جهد قلمي في مقالي هذا على الحالة الترامبية وما سيتمخض عنها من تبعات على المستوى الاستراتيجي، ليس فقط على مستوى الإقليم، بل على مسار سيرورة الأحداث العالمية، وسأقتضب ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

دعني عزيزي القارئ أرتب افكاري بنقاط محددة بحسب الأولويات التي أراها:

1. مقارنة بأوباما مثلاً، نجد أن أوباما قد احترف وأجاد سياسة العصى والجزرة، أما صاحبنا فلا نرى في يده إلا عصا يهش بها على غنمه، بيد ان له فيها مآرب أخرى!
يدور الناس بين التندر على تصريحاته حول مستقبل القضية الفلسطينية وبين الصدمة والذهول كالذي علا وجه العاهل الأردني في حضرة سيد البيت الأبيض، وبين هذا وذاك سيل من التحليلات الدسمة منها والجوفاء في غالبها، حاصل المسألة هو أن الكل والقليل من الكل وجدوا ذواتهم في حالة اصطدام حتمية بجدار لم يجربوه قبلا، وليس ثمة خيارات، كلها مُرّة، إما أن تنصاع وإما أن تنصاع، ذلك لأن ترامب يفهم العقلية العربية جيدا خلاف ما يظنه البعض، فهو يرى القادة العرب ملوكاً

مطلقي اليد، تدغدغ صولجاناتهم نشوة الديكتاتورية المكبوته في قراة نفسه، وأراه يقارعهم بعقليتهم ليُريَ نفسه من هو صاحب اليد العليا، وفي المقابل هو شخصية براغماتية إلى حد كبير، وهذا متأصل في صورة المقاول أو السمسار العقاري، لكن هذه البراغماتية مشوبة بحالة إرتساء، والإرتساء هو الانحياز المعرفي لتوصيف الأشياء، لكنه مبني على شح المعرفة خاصة في حال اتخاذ القرارات المصيرية.
ولعلنا نضيف حالة الوفاء المطلق لفريق دون غيره، ومحاولة رد الجميل للناخبين والمتبرعين الكبار ذوي التوجهات الواضحة.

2. هل نعول على القمة العربية؟

علمياً فإن المرء بين خيارين إذا ما واجه حالة صراع وجودي، إما أن يصارع وينافح حتى الرمق الأخير، أو أنه يستسلم لقدره، ولا أرى زعماء العرب في منأى عن هذه التجربة التراجيدية! فالقوم يشتبكون مع تعنت لم يسبق لهم ان جربوه، فلطالما كانوا طلاب سلام واعتدال، ولطالما وجه الغرب سهامه نحو الراديكلية والتطرف، لكن ترامب اليوم لا يبقي ولا يذر، فوضع الجميع في سلة واحدة، وكأني بلسان حاله يقول: أوسلو وما بعدها والمبادرة العربية للسلام والأرض مقابل السلام، اجعلوها مرطبات واشربوها!
وبناءً عليه: ولأول مرة، كل الآمال بالحلول السياسية تعتمد كلياً على مخرجات القمة العربية، ولا أقولها مازحاً، فالموقف اليوم لا

يحتمل التسويف والتنديد والشجب والاستنكار، بل يجب أن يكون الموقف العربي واحدا، ولهم أن يختاروا دولة أو مجموعة دول تتفاوض مع البيت الابيض تحت إجماع رافض بالقطعية لقرارات ترامب وتلميحاته، وعليهم ترتيب البيت العربي تحسباً لتبعات لاءاتهم، ( والله أنا اضحك من تصنيفي للموقف العربي، لكن الجود من الموجود) ، أما إذا خرجت القمة كسابقاتها، فاعلموا بأن اللعبة قد انتهت!

3. تركيا: سبق لاردوغان أن صرح بعدم أخذ كلام ترامب على محمل الجد، لا أعرف إن كان الرجل يعي ما يقول، أو ان نشوة إنجازاته في سوريا أنسته حجمه الحقيقي، فلا داع لذكر مواقف تركيا الخجولة، والتي لم يثمر عنها شيء يذكر، ولا ننسى استماتة تركيا في دخول الناتو، لذلك فهي أيضا بين عدة خيارات فرضت عليها، وحان وقت الاستحقاقات، فإما تصريحات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما موقف واضح حازم تلتزم به تركيا المسلمة إحقاقا لدورها التاريخي.

4. مصر: تعمدت أن اضع مصر بعد تركيا، مراعاة لدورها الذي قزّمه السيسي، فباتت مصر لاعب احتياط بعدما كانت لاعباً أساسياً في المنطقة، ولا يغرنّكم تعنت السيسي وإلغاء زيارته لواشنطن، فأنا ارى أن أنفة الرجل تمنعه أن يقف موقف ملك الأردن الرعديد، ولعله بعث به ليتحقق من جدية الموقف الأمريكي، وتأكد عزيزي

القارئ انه في حال ما وافقت مصر على فتح المعبر، فسترى تغييراً كليا في الخطاب الإعلامي المصري، وستتحول نبرة التحدي والعنفوان إلى تبريرات للموقف المصري بل إطراءات على حكمة الزعيم المفدى الذي أنقذ مصر والمنطقة بحكمته من حرب لا تبقي ولا تذر، (هذا في حال وافقت مصر لا سمح الله).

5. السعودية: لطالما كانت القضية الفلسطينية عبئاً على النظام العربي بلا استثناء، وأخص دول مجلس التعاون الخليجي الذي تقوده السعودية، وأما شرط التطبيع الذي تفرضه السعودية ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وشيء من حفظ ماء وجهها، وإلا لحصل التطبيع منذ عقود،

فالمملكة وإسرائيل ينامان في فراش واحد، وانتهى شهر العسل منذ عقود، وما هم إلا في حالة زواج عرفي ينتظر الإشهار لا غير، فلا يعولنّ أحد على غلام أرعن لا يعرف عن تاريخ حروب المسلمين إلا غزوة بدر ومؤته!

6. أوروبا: على عكس المتوقع، فإنا نرى تغيّراً في الموقف الأوروبي نحو سياسات ترامب، ليس حباً بالعرب والمسلمين أبدا، بل نكاية بالرجل بعدما بدؤوا في استيعاب الكارثة الإقتصادية التي ستحل بهم إذا ما استمر ترامب على نفس النهج، ولعل تصريحات الأفّاكة وزيرة الخارجية الألمانية دليل واضح على ذلك، وهو تغيير جوهري في الموقف، ولكم أن تتذكروا موقفها الداعم للإبادة في غزة في بدايات الحرب.

7. روسيا: كل من قرأ تاريخ الصراع الروسي الأمريكي لا يحتاج إلى عظيم فطنة ليعلم أن ما يحدث يصب في مصلحة الروس، ولعل روسيا هي المستفيد الأول مما يحدث، فأبعاد سياسها الخارجية معقدة، وعلاقاتها مع حلفائها يشوبها التذبذب والمكر، فلا هي حليف لإيران والصين على المستوى الإستراتيجي، لكن في نفس الوقت تدور في نفس الفلك الإيراني الصيني، وقد تكون هذه الفرصة الوحيدة التي ستخرج بمكتسبات حربها ضد أوكرانيا، سيما بعد تخلي ترامب عن دعمها، ولا أظن أن الروسي سيغامر

بخسارة مثل هذه الفرصة، لأن جيشه واقتصاده مستنزفان، والحصار الإقتصادي قد ضرب أطنابه ليسمع شرق آسيا كلها.

8. غزة: الكل غزة، والجميع متحدث بإسمها، والكل ينظر لهذا الشعب القتيل، فلا هو أطعمهم من جوع ولا آمنهم من خوف، والكل يزايد على صمود أهل غزة، دون أن يذوق عشر معشار ما يذوقه الناس هناك، فلا مأوى ولا طعام ولا شراب ولا حتى أبسط مقومات الحياة، وأنا أراهن على أن غالبية الناس في غزة لو أعطوا حرية الاختيار لخرجوا منها طواعية، نعم، طواعية، ولو كان كل متفزلك فيلسوف يزايد عليهم قد ذاق مما ذاقوا لفر هارباً لا يلوي على شيء.

أما مسالة الشعارات الفارغة تركناها للأوغاد من أمثال نشأت الديهي الذي قال: تموت الحرة ولا تأكل بثديها! وهو نفسه الذي يسفّ السحت من تمويل قنوات العهر والتطبيل.

9. الصين: الصين هي بيت القصيد، وهي مربط فرس الكاوبوي، وهي الغنيمة الكبرى، بل أم الغنائم، اترى أمريكا تدع منافستُها الأولى تنعم في صعودها ونمائها، لا يتنازع في هذا كبشان!

ختاما أقول: كل ما سبق هو تحليل سياسي يستند إلى وقائع وتصريحات وتحليل من عندي، وهذه قرائتي للحالة السياسية في المنطقة والعالم، لكنني أذكر نفسي والقارئ بأن لهذا الكون رب قدير جبار عزيز، فأنا أريد وأنت تريد وترامب يريد والله يفعل ما يريد.
 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]