على الأبواب يوم مولدي ...وكاّنّه حدثَ بالأمس ؛ بالأمس القريب ، وإلّا فما باله يخطرُ على بالي واضحًا جليًّا وكأنّني أعيشه وأحياه وأُغنّيه اليوم.

أذكر نفسي وأنا في صفِّ البستان ألبس مريولًا مدرسيًّا أخضر كما كلّ الطلّاب والطّالبات في الصّف ، وأذكر وأتذكّر أنّني امتعضت وقتها وخجلتُ – رغم صغر سنّي - ، فالمريول يا مُعلّمتي يُسرى يليق بالأُنثى ؛ بل خُلق ووجِدَ لأجلها ، فما بالك تلزميننا على ارتدائه ؟! فلبسته على مضَضٍ وفي قلبي وعلى وجهي ألف باقة خجل ...

ولكنّني ومع الأيام رحتُ أعشقه ، وكم تمنيّتُ وأتمنّى لو كان هناك من رسمني وأنا ارتديه ، أو التقط لي صورةً وأنا أرفلُ به ، أو لو احتفظت به، لكان اليوم كنزًا يلوّن خِزانه ملابسي .

ولا أنسى وكيف أنسى حقيبة كتبي في الصّف الأوّل ؛ تلك الحقيبة بل قُلْ: " المِحفظة" التي حاكتها المرحومة أُمّي من قُماش احدى المِخدّات ، ورُحتُ أُعلّقها كما كلّ أصدقائي على كتفي وأنا أعبر الطرقات الضّيّقة في بلدتي الجميلة عبلّين للوصول الى الصّف القابع في بناية السيّد مفضي خليل ... أعبرها صباحًا مع زقزقةِ الدّوريّ يُعانق نوافذ شُباطَ مرةً وأُخرى تحت زخّات المطر وشمسيتي يدان صغيرتان ، فمرّة أنجح في الوصول سالمًا ، وأحيانًا أصل والوحل يرقص فوق ثيابي من جرّاء حفرةٍ اقتعدت كأخواتها جلّ طرقاتنا .

سقى الله هاتيكَ الأيام ؛ أيام الفقر والبراءة والطّيبة والمحبّة غير المُقنَّعة ، وسقاها طَلًّا وعِطرًا وفوْحَ ياسَمين.

ومرّت الأيام وكأنّه حُلمٌ ، حُلمٌ وينقضي ويتلوه آخر وآخَر ، وإذا بي وأنا في عنفوان الشّباب أنخرط في سلكِ التعليم ، فكم عشقتُ أن ينادوني " يا معلّم " كما نُوديَ من قبل على السيّد المسيح .

لقد عشقت هذه المهنة وما زلتُ ، ففيها ومن خِلالها تتجلّى القداسة ويرفل العطاء وتشمخ الانسانيّة ، فلو أسعفني الحظّ ! – ويل ليته يُسعفني – نعم فلو أسعفني الحظّ اليوم وعُدْتَ شابًّا لاخترْتُ أن أكون مُعلّمًا يزرعُ العقول والنُّفوسَ أدبًا وعلمًا وايمانًا .

حقًّا كأنّه حُلم ..
فأنا اليوم في الخمسين والنّيّف من السّنين - رجاءً لا تسألوني عن " النيّف " كم هي – وما زالت تلك الأيام الجميلة تُكوْكبُ في مخيلتي في كلّ يوم وتناديني :
تعالَ تفيأ تحت ظِلالي
تعال وعُد الى البراءة
وتعال وأكتب " دار دور" ودعك من عالَمٍ متحضّرٍ يعشق الحرب أكثر من عشقه الحياة وربّ الحياة !!!
يا ليتني أقدر واستطيع أن اعود الى تلك الأيام الخوالي فأتلذّذ بِ:
" المجدّرة " و "السميدة والبنادورة " و" الغليضة " ( الغليظة) و" مرقة العدس " و" الخبيزة " وخبزات الصّاج ، وأكلات أُخرى فرضها الفقر فرْضًا فالتهمتها بلذة مرّةً وعنوةً مرّة أُخرى ، ونحن نلعب : البنانير والغُميضة والحِيز ويلّا الغيث غيثينا ، حين تبخل علينا السماء بالمطر.
عُدْتَ يا يوم مولدي ... عُدْتَ وعادت بي الذّكريات الحُبلى بالحياة والمرح والبراءة رغم " القِلّة" وضيق اليد ...
عُدْتَ ويا ليتك تعود مرّاتٍ كي أُبحرَ في عشرات السنين القادمة الى هاتيك الأيام.. أتُرى السماء تسمعُ فتستجيب .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]