" بكر افق من نومك، حماس احتلت إسرائيل"، على هذه الرسالة، ورسائل تشبهها، استفقت من نومي في ذلك السبت، السابع من أكتوبر من العام الماضي، ويوم السبت بالذات انا لا اضبط المنبه، فوجئت كما الجميع بالمشاهد، بعناصر حماس يتجولون في بلدات غلاف غزة ويطلقون النار، وأكثر ما شعرت به في ذلك اليوم، هو الخوف، ليس الخوف على دولة إسرائيل من هجوم حماس، وليس الخوف على أهل غزة من ردة فعل إسرائيل، وليس الخوف على كل ما كان متوقعًا بأن يحصل بعد هذه الأحداث، بل الخوف من المجهول، الخوف من أمر لم يحصل من قبل، فأنا لم أكن قد ولدت في حرب أكتوبر 1973 (يوم الغفران)، ولم يسبق لي أن رأيت إسرائيل هي التي تتعرض لاعتداء، طوال عمري أرى إسرائيل هي المعتدية، وحتى عندما كانت تتعرض لرشقات صاروخية من غزة، لم تكن هذه القذائف في تلك الجدية والخطورة التي تجعل المرء يعتبر إسرائيل ضحية، ورغم أني لا اعتبر إسرائيل ضحية في أحداث السابع من أكتوبر، إلا أنها بلا شك كانت الطرف الذي تعرض للاعتداء، وخصوصا أنه شمل عدد كبير من المدنيين، وهذا امر غير معتاد، وبالتالي كان الشعور بالخوف يوازي أو يفوق الشعور بالصدمة.
كتبت وقتها سردًا لما حصل في حساباتي بمواقع التواصل، ثم سكتت لعدة أيام، لم يكن هنالك ما يقال، ثم بدأ الرد الإسرائيلي، وبدأ القصف على غزة يتوسع أكثر فأكثر، وبدأ الحديث عن العملية البرية، والتحليلات ما اذا كانت إسرائيل ستقدم عليها أم لا، وخلال هذه الأسابيع الأولى للحرب، شنت الشرطة –كيف لا وعلى رأسها الوزير بن غفير- حملة موسعة ضد المجتمع العربي، تابعت ضمن عملي بعض الاعتقالات والملاحقات، تم اعتقال شابة لأنها وضعت صورة "شكشوكة"، آخرين تم طردهم من عملهم بسبب متابعتهم لصفحة تنقل الاخبار الفلسطينية، ليس بسبب وضع لايك على منشور، بل بسبب متابعتهم لصفحة إخبارية، وتكررت الحالات، التي كتبت عنها في بعض التقارير، والتي غالبًا سمعتم عنها أصلا. وقتها، قررت أن أكتب، أن أقوم بدوري كصحافي، أن اكتب الحقيقة، أن اتحدث عن المأساة الإنسانية التي بدأت تتوسع كل يوم أكثر في غزة، عن حرب الإبادة، ووجدت نفسي وحيدًا مع عدد قليل جدًا من الناشطين والصحافيين، يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة، لوحدنا كنا من المواطنين الفلسطينيين الذين لم نتوقف عن الكتابة عن غزة رغم ما في الامر من خطورة، كل منشور وكل بوست وكل ستوري نشرته في صفحتي منذ السابع من أكتوبر، قبل نشره كنت أضع نفسي في مكان المحقق، وأسأل، هل في هذا المنشور أي تحريض للعنف ضد دولة إسرائيل؟ اذا كان الجواب نعم، رغم أن المنشور ليس فيه أي شيء مخالف، كنت أتراجع عن النشر، واذا كان الجواب لا، كنت انشر، ورغم هذا، من الأسبوع الأول، تركت مع زوجتي أرقام عدد من المحامين والناشطين في مجال حقوق الصحافيين، كي تتصرف في حالة توقيفي أو اعتقالي. فعلت هذا وأنا اعرف أني لا أكتب أي شيء مخالف للقانون، فعلته وأنا أقوم بواجبي الصحافي والإنساني، فعلته بعدما أدركت أننا في مرحلة جديدة، مرحلة جديدة من الخوف.
والحقيقة أن حكايتي مع الخوف لم تبدأ في السابع من أكتوبر، فحتى أحداث أيار 2021، لم أشعر ولو لمرة واحدة بالخوف على نفسي وعلى عائلتي في هذه البلاد، شهدت مع بلوغي صعود اليمين في إسرائيل، لا أتحدث عن صعود الليكود في السبعينات طبعًا، بل عن صعود يمين نتنياهو، شهدت صعود هذا اليمين وتطرفه كل يوم أكثر، وشهدت التغيير الذي حصل في الشارع الإسرائيلي بالتدريج، وكل هذا لم يقلقني، آمنت دائمًا بأنني صاحب حق في هذه البلاد، وأن قضيتي محقة، وبتمسكي بحقوق شعبي الفلسطيني، ولكني في نفس الوقت، آمنت بأن هذا كله ممكن بالسلم، بالتوصل إلى اتفاقات، وأن المشكلة في إسرائيل تكمن بنتنياهو وبعض المتطرفين من حوله، إلى أن جاءت أحداث أيار 2021، وشهدت بعيني مواجهات فعلية بين العرب واليهود، وليس بين العرب والشرطة، وشهدت كيف يتجول أتباع اليمين المتطرف والنواة التوراتية في المدن العربية بسلاحهم، وتابعت كل مجموعاتهم في الواتساب ومواقع التواصل، ولأول مرة، شعرت بالخوف على مستقبلي في هذه البلاد وعلى عائلتي، من تغوّل اليمين المتطرف وسيطرته على الشارع الاسرائيلي. ثم جاء السابع من أكتوبر وما لحقه من تحريض ومن تعميم ضد كل العرب ومن تخويف، والأمر لم يقتصر على حكومة اليمين وأتباعها، ولأول مرة، بعد السابع من أكتوبر، شعرت أن إسرائيل برمتها، بيمينها ويسارها، بشرقها وغربها، بمركزها وأطرافها، أصبحت ضدنا.
كانت هذه السنة، هي الأصعب في حياتي، وفي حياة كل من اعرفهم تقريبًا، وغالبًا في حياة كل من يعيش في هذه البلاد، بلا شك تأثرت بمشاهد السابع من أكتوبر، وبشكل خاص ما حصل مع المدنيين، ورغم اني لم أصدق كل الروايات الإسرائيلية عن الأحداث، إلا أن ما رأيته بالفيديوهات كان كافيًا بأن أعرف مدى فظاعة ما حصل، ولكن الحقيقة، أن دولة إسرائيل، التي ورغم أنها تحب ان تظهر في دور الضحية أمام العالم، إلا أنها لم تكن كذلك ولا في أي مرحلة، وحتى لم تصبر كثيرًا بعد أحداث السابع من أكتوبر والاعتداء الذي حصل عليها، حتى بدأت بغاراتها المكثفة على غزة، وبدأنا بتلقي صور وفيديوهات الضحايا والدمار في غزة، وعادت إسرائيل سريعًا من دور الضحية إلى دورها المفضل، دور المعتدي والقاتل، وبدأنا نرى صور الفظائع في غزة، فظائع لم نرها من قبل، حتى لو كان الإعلام الإسرائيلي لا يظهرها، تخيلوا أن مشهد أشلاء الأطفال صار مشهدا اعتياديًا، أو مشهد رأس طفل مقطوع، أو سيدة محروقة، أو عشرات الجثث مكومة في مكان واحد، أو قبور جماعية، أو عائلات كاملة حذفت من السجل المدني، كاملة، الأب والأم وكل أطفالهم، هذه المشاهد والاخبار صارت جزء من حياتنا اليومية، فتخيلوا أي حياة يومية نعيشها وأن ترى أبناء جلدتك وأبناء شعبك يذبحون وأن مظاهرة احتجاجية لا تستطيع أن تنظم؟ وهذا كله بالإضافة إلى العنصرية التي استمرت، وإلى الأزمة الاقتصادية التي دائمأ ما نتضرر نحن العرب قبل غيرنا بها، كوننا مجتمع فقير، إلى التصريحات الرسمية العنصرية، إلى آفة الجريمة المنظمة التي تعصف بنا، إلى كل ما يحصل في الضفة، إلى التطورات الأخيرة في لبنان،. وكل هذا مع استمرار المذابح والمحارق بحق أبناء شعبنا في غزة، آخرها مشاهد لاحتراق الناس وهم أحياء في مستشفى بدير البلح قبل أيام.
لا انكر أني أروي لأولادي طوال الوقت بعض الأمور حول السياسة في هذه البلاد وحول هويتهم الفلسطينية، ولكن دائمًا كان حديثي معهم لا يتجاوز ما يجب التحدث به مع أطفال بأعمارهم، 6 أعوام وعامين، ثم جاء السابع من أكتوبر وما بعده، وإذ بأطفالي يتحدثون عن مشاهد الحرب، عن القتلى، عن الفظائع التي تحصل كل يوم، ولا مجال لإخفاء الأمر عنهم، فمواقع التواصل من جهة وقنوات الأخبار من جهة أخرى لا تترك مكانًا كي لا ينكشفوا على الامر، ومع تطور الاحداث في الشمال، صار الأطفال يميزون صوت الانفجارات، وصوت صافرات الإنذار، صار هذا حديثهم اليومي، أطفالنا بعدما وصلوا إلى وضعية يميزون صوت اطلاق النار عن صوت المفرقعات النارية مع انتشار جرائم اطلاق النار في مجتمعنا، باتوا الآن يميزون أيضًا أصوات الانفجارات عن الأصوات الأخرى. لكن في النهاية أخجل من أن اشتكي من أمر كهذا، فمخجل أن أشتكي أن الحرب أثرت على نفسية أولادي، وهنالك أولاد آخرون، الحرب تقتلهم وتقطعهم أشلاء وتقتل أهلهم، وهنالك أولاد آخرين ما زالوا تحت الأنقاض.
بلا شك، المشهد قاتم، ومؤخرًا بات أكثر سوداوية خصوصًا مع توقف الحديث تقريبًا عن أي صفقة تنهي الحرب، وكل الحيثيات تقول أن الحرب مستمرة بالتوسع، ونحن، الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، لأننا مكشوفون على ما يحصل وعلى الحديث الدائر في كلا الطرفين، في إسرائيل وإعلامها، وفي غزة ولبنان والإعلام العربي، فإن نظرتنا تختلف عن الآخرين تجاه كل الأمور، نتأثر ايجابيًا أكثر من غيرنا اذا كانت التطورات إيجابية ولكننا نتأثر سلبيًا أكثر من غيرنا اذا كانت التطورات سلبية، كما يحصل في الأيام الأخيرة. ولكن الأمر الآخر الذي يميزنا نحن، والآن أكثر من أي مرحلة سابقة، وهو أننا الفئة الوحيدة، التي ما زالت تؤمن بإمكانية التوصل إلى سلام عادل، أننا الفئة الوحيدة التي ما زالت تنادي بذلك علنًا وتقول ذلك علنًا، فبينما الشارع الإسرائيلي بمعظمه، وفق ما نراه في الإعلام على الأقل، وخصوصًا بعد السابع من أكتوبر، بات لا يؤمن بحل السلام، لدرجة أن الموضوع يكاد لا يذكر في الستوديوهات التلفزيونية، ومن يتحدث عن الموضوع يبدو خارجًا عن الاجماع وشاذ، وبينما الشارع الفلسطيني، لا يؤمن بغالبيته بأن السلام مع اسرائيل بات ممكنًا، خصوصًا بعد حرب الإبادة، ولا يتم الحديث عن الموضوع تقريبًا بين الفلسطينيين، ومن يتحدث عن الأمر يبدو خارجًا عن الإجماع وشاذ، فإننا نحن المواطنين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، ما زلنا نؤمن وننادي بذلك من كل منصة، وقد تتعدد الأسباب لذلك، إلا أن السبب الرئيسي باعتقادي، أننا نحن بالذات، لا نستطيع سلب إنسانية الإسرائيلي، الذي نعيش معه ونعمل معه ونعرفه كصديق أو زميل، ولا نستطيع بطبيعة الحال، سلب إنسانية الفلسطيني، فلا يسلب المرء انسانيته وإنسانية شعبه.
[email protected]
أضف تعليق
التعليقات
مقال ممتاز .