نشرت نقابات المحامين في الولايات المتحدة، بريطانيا وإسرائيل ودول اخرى مذكرات توضيحية بشأن استخدام المحامين لبرامج الذكاء الاصطناعي في عملهم القضائيّ. سلطت هذه المذكرات الضوء على التحديات والمخاطر الاخلاقية والأدبية التي تشوب استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في مجال مزاولة مهنة المحاماة والقضاء. فما الذي يقلق قطاع المحامين والقضائيين حقّا من استخدام الذكاء الاصطناعي؟

في الحقيقة، تعتمد برامج الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيرها من البرامج التي تنتج المحتوى القانوني على استيعاب ومعالجة المعلومات بشكل مستمر، ومن خلال قواعد بيانات واسعة، لتقوم بإنتاج المضمون الذي يطلبه المستخدم. في مهنة المحاماة، يمكن لخدمات الذكاء الاصطناعي أن تشمل كل شيء، من كتابة الرسائل، صياغة العقود، تلخيص السوابق القضائية وإجراء الأبحاث القانونية، وحتى كتابة الدعاوى القضائية للمحاكم! هذه المهام التي اعتدنا ان يقوم بها محام او فريق من المحامين في وقت طويل نسبيًا وبعد جهد غير بسيطٍ يمكن للذكاء الاصطناعي إنجازها سريعا جدا وبمهنية لافتة. وفق هذه الرؤيا، يوّفر الذكاء الاصطناعي بلا شك الوقت والموارد بشكل ملحوظ، ويحسّن من أداء المحامين وقدراتهم، ويجعل الخدمة القانونية أرخص ومتاحة اكثر.
ما المشكلة إذاً في استخدام الذكاء الاصطناعي في مهنة المحاماة؟ هناك عدة أمور سلبيّة يجب الالتفات اليها! أولاً، ان المحتوى القانوني الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي لا ينتجه انسان أو خبير في القانون ولهذا توجد شكوك حقيقية من جهة مصداقية ودقة المعلومات، اذ قد تكون مضللة أو مشوهة وأحيانًا قديمة. حتى ان برامج الذكاء الاصطناعي نفسها تؤكد في شروط الاستخدام الخاصة بها أنها لا تتحمل المسؤولية عن المعلومات التي تقدمها للمستخدم أو عن الأضرار الناتجة عن استخدامها. لهذا السبب قد يخالف المحامي الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي واجبه المهني والأدبيّ تجاه موكله او الاشخاص المعنيين لأنه قد يقدّم ويستعمل معلومات قانونية غير صحيحة او دقيقة. وان قدّم المحامي مضامين كهذه للمحكمة، فهو قد يخالف بذلك ايضا واجبه الأدبيّ تجاه المحكمة ومساعدتها على تحقيق العدالة والوصول إلى الحقيقة.

مسألة مقلقة أخرى هي خصوصية الموكل. فالمعلومات المتبادلة بين المحامي وموكله يجب أن تكون سرية بينهما، ويحظر على المحامي ازالة هذه السرية بدون إذن من موكله. ولكن المحامي قد يخالف واجبه القانوني والأخلاقي في الحفاظ على سرية معلومات موكله عند استخدامه للذكاء الاصطناعيّ لتقديم الخدمة المطلوبة لموكله. ذلك لأن برنامج الذكاء الاصطناعي تحتفظ بالمعلومات كالسؤال أو الوثيقة التي يقوم المحامي بإدخالها للبرنامج للحصول على الخدمة مع ان هذه معلومات تخصّ الموكل. بل ان الذكاء الاصطناعي يستخدم هذه المعلومات لتحسين أدائه، وبهذه الطريقة تصبح معلومات الموكل جزءًا من نموذج الذكاء الاصطناعي ذاته!

في نظري، هناك اشكالية أخلاقية هامّة أخرى في استخدام الذكاء الاصطناعي في مهنة المحاماة، وأعني هنا بشكل خاص البرامج التي تنتج المحتوى القانوني وليس تلك التي تخصّ إدارة المكاتب فقط. وهي ان الذكاء الاصطناعي يشوّه الحدود بين المحامي الحسن وبين المحامي السيىء، وبين الخبير في القانون وبين الجاهل فيه. يتسبب الذكاء الاصطناعي في أن يُظهر المحامي ذو المستوى المهني الضعيف نفسه كمن يقدم لموكله الخدمة القانونية ذاتها التي يقدمها محامٍ قضى حياته في التعلم والاجتهاد والتخصص حتى وصل إلى المستوى المهني الذي وصل إليه. لكن الإشكالية الأخلاقية والأدبيّة لا تقتصر على ذلك فحسب. بل ان السؤال الأكبر هو: هل نريد حقاً أن تحل الآلة محل المحامي في تقديم الخدمة القانونية وفي صنع مضامين القانون وتطويره؟ ألسنا أمام منزلق أدبيّ، اي انه إذا سمحنا للذكاء الاصطناعي بأن يحل محل المحامين في إنتاج القانون، فلماذا لا يحل الذكاء الاصطناعي محل القضاة أيضًا ويقوم هو بإصدار القرارات والأحكام؟ هل يمكن استبدال "الضمير" و"الإحساس بالعدالة" و"العقل السليم" الخاص بالمحامين والقضاة بالذكاء الاصطناعي؟ أم أن الذكاء الاصطناعي يمتلك حقا ضميرًا وإحساسًا بالعدالة وعقلًا سليمًا؟ لا اظن ذلك أبداً! على اي حال، تستوجب هذه الأسئلة نقاشا جديّا بين المختصين في سلك القضاء وفي المجتمع الديمقراطي على وجه العموم، خاصة أن الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني يتقدم بخطوات كبيرة وهو يخفي تحت "سحره" حفرا أخلاقية خطيرة. حتى الفريق الاستشاري لموضوع الذكاء الاصطناعي الخاص بالأمم المتحدة نشر مؤخرا تقريرًا يدعو إلى تنظيم عالمي للذكاء الاصطناعي من أجل البشرية سريعا منوها إلى مخاطر هذا "الذكاء" للإنسانية وضرورة ضبطه وقيادته.

الكاتب دكتور في القانون من جامعة تل أبيب، وشريك في مكتب محاماة فيرون. المقال ملخص المحاضرة التي قدمها الكاتب في مؤتمر دبي للذكاء الصناعي يوم 24.9.24 والتي حصلت على وسام المحاضرة الأفضل في المؤتمر.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
[email protected]