كثيرة هي سيَر الياس خوري.
فالرجل الذي التقيتُه العام 1994، وكان مديراً لـ«مسرح بيروت» ورئيسَ تحريرٍ لـ«ملحق النهار الأدبي»، لم يتوقّف يوماً عن العمل والمبادرة والكتابة منذ شبابه المبكر.
كأنه كان في سيَره روايةً مستقلّة عن راويها، أو بالأحرى كأنه كان في سيَرِه، روايته المكتملَة المشتهاة.
من الشبيبة الأرثوذوكسية والمطران جورج خضر، إلى حركة فتح وكتيبتها الطلابية أواخر الستينات، إلى الدراسة في الجامعة اللبنانية ثم في فرنسا، إلى مجلة «مواقف» ثم الحرب الأهلية ومجلّة «شؤون فلسطينية» مع محمود درويش، إلى جريدة «السفير» التي تولّى تحرير صفحتها الثقافية قبل أن تُخرجه تبعات حرب المخيمات العام 1985 وهيمنة النظام السوري على «بيروت الغربية» ثم على كل لبنان تدريجياً منها، وصولاً إلى «مسرح بيروت» و«ملحق النهار» في التسعينات، تتابعت سيَر الياس وعجّت حقباتها بالأشخاص والأحداث الجسام.
بموازاة ذلك، كان الروائي يبني تجربةً تتوالى فصولها، وتتعدّد أشكالها ومضاميرها، ولَو أنها اتخّذت على الدوام من فلسطين وقصص نكبتها، ومن حرب لبنان وجغرافيتها ومن أبطالها ولصوصها، ومن عوالم الأحلام والكوابيس والشعر العربي الذي حفظه عن ظهر قلبٍ أرضاً لها وفضاءً، تعدّدت نجومه تَعدُّد صداقات الياس وأمزجته وأهوائه وخساراته الشخصية.
الثقافة واليسار وفلسطين والمسألة الديمقراطية
على أنني سأتوقّف في السطور التالية عند سيرة الياس بعد العام 1994، ليس لمرافقتي إياه فيها فحسب، بل أيضاً لما لا يعرفه كثُر عنها وعمّا فيها من جهد ودأب ومبادرات وبحث عن هوامش ثم عن هيئات للعمل من أجل مروحة قضايا، كانت وما زالت قضايا الحق والعدالة والحرّية في لبنان وفلسطين والمنطقة العربية بأسرها.
ففي «مسرح بيروت»، ساهم الياس خوري في إطلاق ورشة ثقافية جمعت المسرح بالفن التشكيلي، والموسيقى بالشعر، والندوات الفكرية بالأنشطة السياسية. وكانت الورشة هذه، وهي الأولى بعد الحرب، الأكثر غنى في أقلّ من عقدٍ من الزمن من كلّ ما شهده البلد وقتها، إن بإنتاجها وتنوّع أعمالها ووجوه المشاركين فيها، من أجيال لبنانية وعربية مختلفة، أو بمضمونها ومواقفها السياسية.
ولا شكّ أن الأيام المكرّسة لإدوارد سعيد وما ضمّته من مشاركين ومشاركات من مختلف أنحاء العالم، والموسم المخصّص للذكرى الخمسين للنكبة الفلسطينية وما شهده من ندوات ومحاضرات وشعر وفنون وموسيقى، والاجتماعات التي عُقدت في المسرح أو بمبادرة منه دفاعاً عن حرية التعبير ودعماً لسجناء الرأي في سوريا والمنطقة العربية، إضافة إلى المسرحيات اللبنانية والعراقية والتونسية والجزائرية والمصرية، ومهرجانات السينما المتنوّعة، كانت أبرز ما ميّز المسرح وجعله المعلَم الأول الباحث عن استعادة الأدوار التي صنعت قبل الحرب فرادة العاصمة بيروت وكوسموبوليّتها وريادتها.
وفي «ملحق النهار الأدبي» الذي تسلّم رئاسة تحريره وأعاده إلى الحياة بعد غياب طويل، كتب الياس أسبوعياً ودعا عشرات الكتّاب والكاتبات للمساهمة في خلق مساحة حرّية تُتيح التفكير في قضايا ثقافية وسياسية لم يكن البحث فيها على الدوام متاحاً في الصحف، بما فيها صحيفة النهار نفسها.
هكذا، وفي تواطؤ مع ناشر الصحيفة غسان تويني استمرّ من العام 1992 ولغاية انكفاء الأخير عن الشأن العام والعمل الصحفي سنة 2008، فتح الياس مع شركائه في الملحق ومستكتَبيهم كوّة في جدار الصمت والرقابة (والرقابة الذاتية) الذي حاول النظام السوري وعملاؤه اللبنانيون تشييده، وواكب أهم المفاصل والأحداث الفكرية والسياسية: من البحث في تجديد معنى اليسار ووظائفه بعد سقوط التجربة السوفياتية، إلى قضايا الديمقراطية والتحرّر من أنظمة الاستبداد العربي بعسكرها المتوحّش وأموال نفطها المهدورة على شبكات الفساد والارتهان، إلى مسائل الحريات الفردية والإبداعية في مواجهة القمعين السياسي والديني، إلى السؤال الطائفي في لبنان وموضوعات الذاكرة والحرب وكتابة التاريخ، وصولاً إلى الانتفاضة الثانية في فلسطين ثم رحيل ياسر عرفات، وانتهاء بـ«انتفاضة الاستقلال» اللبنانية العام 2005 عقب اغتيال رفيق الحريري وما تلاها من اغتيالات طالت من بين مَن طالتهم سمير قصير، الكاتب في الملحق والشريك الحميم في المواقف والمبادرات السياسية، وجبران تويني رئيس تحرير النهار.
وليس من المبالغة القول إن الملحق كان طيلة التسعينات أهم منبر ثقافي سياسي مستقل، مواجِه للسلطات السياسية في البلد ونقديّ لمشاريعها الاقتصادية، وأن صفحاته استقطبت أبرز أسماء الثقافة اللبنانية وكانت في الوقت ذاته الحيّز الذي أطلقَ جيلاً جديداً من الكتّاب والشعراء والرسّامين، ممّن ذهبوا لاحقاً كلّ في سبيله.
والياس، الذي كرّس سنوات التسعينات للمسرح والملحق ولكتابة الرواية، كرّس جهوداً كبرى أيضاً للحملات المواطنية والسياسية ولبيانات المثقّفين ولمحاولات تأسيس حركة يسارية لبنانية جديدة. وبين العامين 2000 و2008، وفي حقبة كان يُمضي فيها سنوياً فصلاً في نيويورك للتدريس كأستاذ زائر، عاونه في «الملحق» زميله عقل العويط، وواكبا بعناية التطوّرات السياسية في لبنان بعد اندحار الاحتلال الإسرائيلي وإطلاق نداء «قرنة شهوان»، والتبدّلات في المشهد السوري قُبيل وفاة حافظ الأسد وتوريث ابنه السلطة ثم خلال «ربيع دمشق».
وفتح الياس الملحق للكتّاب السوريين المعارضين والمنشقّين ولبياناتهم، وأتاح لهم منبراً يكتبون فيه ويُكتب فيه عنهم، لا سيما بعد تجدّد هجوم النظام الأسدي عليهم وتكرار سجنهم. كما انضمّ الياس في الفترة ذاتها إلى «المنبر الديمقراطي» الذي ترأسّه حبيب صادق، وجمعت مكوّناته أطياف الحركة الاستقلالية اللبنانية الجديدة، الهادفة إلى إنهاء الهيمنة المخابراتية السورية على لبنان، والدعوة إلى عقد وطني وإلى إصلاحات سياسية واقتصادية.
بموازاة ذلك، كان الياس يشارك في تأسيس «حركة اليسار الديمقراطي» التي لعبت دوراً مهماً في إطلاق «انتفاضة الاستقلال». لكن استهداف اليساريين بالقتل، بدءا بسمير قصير ثم بجورج حاوي، والاختلاف في بعض وجهات النظر داخل الحركة الوليدة حول تحالفاتها وأولويّاتها، ثم حول الموقف من «حرب تموز» بين إسرائيل وحزب الله وتداعياتها، أخرج الياس وغيره الكثيرين من الإطار التنظيمي، كما أخرجته بعد أشهر التغييرات الطارئة على جريدة النهار من ملحقها الأدبي، فانصرف لفترة إلى الرواية، وإلى مساعدة الإعلامية جيزيل خوري في تأسيس مؤسسة سمير قصير وتطوير عملها والتفكير في برامجها.
عود على بدء
في العام 2011، أعادت الثورات العربية، وفي مقدّمتها الثورة السورية، لالياس الرغبة في استعادة دوره كـ«مثقّف عام» يقرأ التطوّرات ويحاول التأثير فيها. غير أن تعاظم القتل وضراوة الثورات المضادة التي وأدت احتمالات التغيير وحوّلت سوريا إلى حطام، أطاحت بالرغبة هذه وأرجعت الياس إلى أولوية الكتابة على حساب النشاط السياسي ومحاولات التأثير المباشر.
وسمح له ترؤّسه هيئة تحرير «مجلة الدراسات الفلسطينية» وإسهامه المنتظم في صحيفة «القدس العربي» بالتعبير عن خلاصة تجاربه ومواقفه السياسية والثقافية. فكان شديد الوضوح في تبنّي أفكار قوامُها التنوير والنهضة والعلاقة العضوية بين الكفاح من أجل فلسطين والكفاح ضد الاستبداد. وإذ فاجأته الانتفاضة اللبنانية العام 2019 وأمدّته بجرعات أمل وتفاؤل، جاء القضاء عليها بالترافق مع الانهيار المالي والمصرفي ثم التفجير في المرفأ الذي دمّر أحياء في بيروت ليحدّ من «عودته إلى شبابه» في المظاهرات، على ما كان يردّد، قبل أن يصيبه المرض بآلام متوحّشة فيصمد لأشهر طويلة وصعبة في وجهه، ويستمرّ بالكتابة الأسبوعية، المتقطّعة، حتى رحيله الأخير.
هكذا، طوى الردى سيَر الياس خوري في مدينته بيروت، وأقفلت روايته التي تعدّدت حكاياها على حكاية تراجيدية رافقها وأغمض عينيه في حضرة مأساتها. حكاية ناس غزة الذين يواجهون الإبادة والآلام ويتمسّكون بالنجاة ووعود الحياة.
لالياس خوري، رفيقاً وصديقاً في حلو الأيام ومرّها، السلام وشقائق النعمان.
*كاتب وأكاديمي لبناني
[email protected]
أضف تعليق