أحيانًا تكون الطبيعة نفسها هي مختبرنا، حين تتحد عدة عوامل، في نطاق منطقة معينة، تخلق ظاهرة ما، قد تعلمنا أشياء لم نكن نعرفها. ينطبق ذلك الشيء نفسه، على منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، البحر الذي يمتد على طول سواحل البلاد، ظروفها الفريدة، والتي تشمل مياه فقيرة، نسبيًا، بالنشاط الحيواني، إلى جانب التدخل البشري المكثف، (مثل بناء سد أسوان على النيل)، الذي غيّر تركيبة المياه في المنطقة، حيث جعلها نوعًا من "المختبر الحي"، لدراسة آثار أزمة المناخ على البحار والمحيطات.
قدم ذلك "المختبر"، مؤخرًا، نتائج مثيرة للقلق. فقد وجدت دراسة إسرائيلية جديدة، أن الاحترار المتزايد في شرق البحر الأبيض المتوسط، يسرّع من تكوّن معدن الأراغونيت البلوري، والذي يطلق تكوّنه، ثاني أكسيد الكربون نحو الغلاف الجوي. وهذا يعني، أن منطقة شرق المتوسط، تُطلق كميات أكبر مما نعتقد من غازات الدفيئة، السبب الأساسي لتفاقم أزمة المناخ.
المحيطات والبحار، هي عوامل أساسية في تنظيم ثاني أكسيد الكربون، لتحقيق التوازن في مناخ كوكبنا. لذلك، ووفقًا للدكتور أور بياليك، الباحث في جامعة حيفا، في إطار مشروع EMS FORE (الذي يستخدم شرق البحر الأبيض المتوسط، كنموذج لمستقبل المحيطات)، وزميل باحث في جامعة مونستر في ألمانيا، الذي قاد الدراسة، بالاشتراك مع مؤسسة دراسة البحار والبحيرات لإسرائيل، فانه علينا النظر إلى هذه الظاهرة، كجزء من كل. ويوضح قائلًا: "إنه أحد أعراض الأزمة، أكثر من كونه مرضًا في حد ذاته. إن إسرائيل هي عيّنة مما يحدث في جميع أنحاء العالم".
مثل زجاجة الصودا في المقعد الخلفي للسيارة
قبل الغوص في نتائج البحث، هناك بعض الأشياء المهمة التي علينا فهمها حول ثاني أكسيد الكربون. أولًا، فان للماء قدرة أعلى من الغلاف الجوي، على امتصاص هذا الغاز. ثانيًا، فالماء الساخن، أقل فعالية في "الامساك" بالغازات، وكل مَن نسي زجاجة صودا، في المقعد الخلفي لسيارته، شاهد على ذلك. ولذا، فطالما أن مستوى ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى، فإن المياه، (المحيطات والبحار)، هي من سوف تمتصه. ولكن، عندما ترتفع درجات حرارة المياه، في البحار والمحيطات، كامتداد لارتفاع درجات الحرارة العالمية، فإن قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء تضعف.
تتحقق هاتان الخاصيتان حاليًا على بحرنا، حيث تصل درجة حرارته، وفقًا لبياليك، إلى درجات عالية جدًا، تتراوح بين 31 و32 درجة مئوية في الصيف. ما مدى خطورة الوضع؟ تُظهر أبحاث مؤسسة دراسة البحار والبحيرات في إسرائيل، أنه في السنوات ال 40 الماضية، كانت هناك زيادة قدرها 2-4 درجات مئوية على درجة حرارة المياه في منطقتنا. انه تغيير كبير للغاية، ذات عواقب وخيمة. ويشرح بياليك: "بسبب الاحترار، فقد رضعفت قدرة البحر على امتصاص الغاز، وحاليًا توقفت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط عن امتصاص ثاني أكسيد الكربون".
وهذه ليست المشكلة الوحيدة. فبالإضافة الى أن البحر "مغلقًا" بوجه ثاني أكسيد الكربون، فهو يستمر أيضًا في إطلاقه الى الغلاف الجوي، وبوتيرة متزايدة. ويقول بياليك: "هنا يتم إنشاء حلقة تغذية متبادلة (عمليتان تؤدي إلى تفاقم بعضهما البعض بمعدل متزايد)، هما عملية ارتفاع درجة حرارة المياه، الممتد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية، تسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وتساهم انبعاثات الغاز للجو في الاحترار.. إنها عملية تغذي نفسها بنفسها".
من أنت يا أراغونيت؟
إذن من أين تأتي بلورات الأراغونيت؟ بادئ ذي بدء، هناك شيئان مهمّان علينا معرفتهما عن هذا المعدن، وعلاقتهما ببحرنا. أولًا، هذا المعدن، هو المادة التي تبني منها المحار والشعاب المرجانية هياكلها العظمية. ثانيًا، في شرق البحر الأبيض المتوسط، ليس هناك نمو كبير للمحار والشعاب المرجانية. وهنا يأتي دور الباحثين، كما يوضح بياليك قائلًا: "بسبب هذا التناقض، توصلنا إلى استنتاج مفاده أن هذه ليست ظاهرة بيولوجية، أي نتاج نشاط حيواني، ولكنها ظاهرة كيميائية، بمعنى أنه تغيير في خصائص البحر، مما يخلق أراغونيت".
وفقًا لبياليك، فإن وجود الأراغونيت في منطقتنا، يقدّم دليلًا على كيفية تغيير أزمة المناخ، لكيمياء المياه. ويفيد: "في الصيف، كان هناك، في البحر الأبيض المتوسط، فارقًا من 8 درجات تم قياسها، بين الجزء العلوي من الماء والأجزاء السفلية من البحر. والى جانب عملية انخفاض في درجة حموضة المياه، تتراكم ظروف يمكن معها تشكيل الأراغونيت". وبعبارة أخرى، يصبح البحر ساخنًا جدًا، لدرجة أن خصائصه الكيميائية تبدأ في التغيّر، ويأخذ بإنتاج تلك البلورات بنفسه، في عملية كيميائية تسبّب آثارًا جانبية، وهي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، والتي يقدّر الباحثون، أنها تمثل حوالي %15 من إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، المنبعثة من البحر الأبيض المتوسط.
تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست ظاهرة جديدة، فقد تم رصد الأراغونيت في الماضي، في الخليج الفارسي، ومنطقة جزر البهاما، حيث شكّلت تلك البلورات، نوعًا من طبقة بيضاء من السحب، على سطح الماء. لم يتم ملاحظة مثل هذه الطبقة هنا، ولهذا السبب بالذات، يعتقد الباحثون أنها قد تكون ظاهرة أوسع بكثير. أي أنه في بعض الحالات، لا يعطينا الأراغونيت "إشارات" واضحة فوق الماء، لكن مجرد حقيقة أننا لا نراه على الفور، لا يعني بالضرورة أنه غير موجود.
بالإضافة إلى ذلك، كما ذكرنا، فإن مياه بحارنا قليلة النشاط البيولوجي، (والتي تشمل، من بين أمور أخرى، الطحالب وكائنات مجهرية)، مما يسمح لنا بعزل هذه الظواهر على النحو الأمثل. لذلك، وفقًا لبياليك، فإن تركيز الباحثين على شواطئ إسرائيل، هو ما مكّنهم من تحديد وجودها في شرق البحر الأبيض المتوسط.
شعاع من الضوء في سحابة سوداء
خلاصة القول، هي أن شرق البحر الأبيض المتوسط، ينبعث منه ثاني أكسيد الكربون الى الغلاف الجوي، أكثر مما كنا نتخيّل، وهذا ليس جيدًا على الإطلاق. ومع ذلك، على الرغم من النتيجة المزعجة لبحثه، يطرح بياليك أيضا نقطة متفائلة.
ويوضح قائلا: "في مرحلة ما، سيكون لدينا الكثير من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، الى الحد الذي سيؤدي إلى عملية كسر لتلك الآلية، وفي هذه الحالة، سوف تذوب بعض المعادن، مثل الأراغونيت، مما سيزيد قليلًا من قدرة المحيطات، على امتصاص ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى".
نعم، في هذا عزاء صغير، أيضًا بياليك يشهد على ذلك، ويقول: "إنه شعاع ضوء خافت، في سحابة سوداء للغاية. في المئة عام المقبلة، سيتعيّن علينا الاستمرار في مراقبة التغييرات عن كثب، ومعرفة آثار هذه السيرورة. أعتقد أنه كلما عرفنا عن الموضوع أكثر، كلما زاد قلقنا على الأرجح". ولكي تزداد أشعة الضوء، التي يتحدث عنها بياليك، فلنا دورنا أيضًا، وهو محاربة أزمة المناخ، التي تزيد من سوء حالة بحرنا، وحالة المخلوقات التي تعيش فيه وبجانبه.
أعدت المقال: "زاڨيت" – وكالة الأنباء التابعة للجمعيّة الإسرائيلية لعلوم البيئة.
[email protected]
أضف تعليق