بقلم: زهير دعيم
كثيرًا ما أتحسّرُ على هاتيك الايام ، الأيامِ الخوالي ، ايامِ البساطةِ والفقر " والقلة " وخبزِنا كفاف يومنا ... أيام كنا نقضي الصيفَ كلَّهُ حفاةً نركض خلف النورجِ ( لوح الدرس ) شهرًا كاملًا حتى نتمكنَ من الحصول على " شروة " من الحبوبِ نبادلُها بحفنةٍ أو أكثرَ من السكاكر الحمراء الشهية ، وٍأيامِ كنا نتربّصُ لدى جيرانِنا ساعاتٍ حتى نحصلَ على ملءِ صحنٍ من البليلة فنحّليها بالسكرِ الابيضِ النادر تارةً والاحمر تارةً اخرى .
سقى الله تلك الايام ، ايام يا حامي الحِمى تحمي البيت وأصحاب
البيت ، حين كانت الامطارُ امطارًا والرعدُ رعدا والبرقُ وميضًا يمّزقُ وينهشُ السماء ، وحين كان وادي قريتِنا يُعربدُ ويزبدُ ويرغو فلا نأبَهُ به ونحن نزرعُ جانبيْه بالمصائد ، ونروحُ ننتظرُ اسرابَ الزرزورِ والقطا والسُّمن وعرائسَ التركمانِ حتى نملأَ منها جرابَنا وبطونَنا الخاوية .
سقى الله تلك الايام حين كانت شَعرةُ الشاربيْنِ كمبيالةً مقدسة ، وكلمةُ الرجلِ وثيقةً فتبيعُ وتشتري وانت مطمئن ، وتنامُ على سطح البيت آمِنًا ، وتصحو على زقزقةِ الدّوري والشحرورِ والحسونِ والابوابُ مشّرعةٌ للشمس والهواء .
سقى الله تلك الايام حين كان الفقرُ " المقدسُ " يستحوذُ على حياتنا فلا نتأففُ ولا نتذمر ، بل نروحُ ننتظرُ الوالدَ عائدًا من حيفا حاملًا معطفًا كمعطف غوغول اشتراه من سوق الخردوات أو حذاءً مستعملاً أخذَ مقاسَه بخيطٍ معقودِ الحاجبيْن !! كانت أيامًا لذيذة ، تملؤها المحبةُ ويملؤها الذوقُ البِكرُ رغمَ ضيقِ اليد ، ورغمَ التعب ، فمنظرُ الراعي يسوق قطيعَه الى المرعى لوحةٌ رائعةٌ قلَّ ما يقدِرُ على رسمِها فنان ، ومرأى الحاصدينَ والحاصداتِ وهم يزرعون الحقولَ عتابا وميجانا ، تقفُ أمامَه فيروز حيرى !
سقى الله تلك الايام وذكرها بالخير أبدًا ، يوم كان الخضارُ يشدُّك برائحتِه ، فيسيلُ لعابُكَ على حبةِ بندورة لوّحتها شمسُ الصيف ، أو حبةِ تينٍ غزاليةٍ تملأُ كفَّكَ عسلًا ولا أحلى ، ناهيك عن القُّطينِ والزَّبيب والسِّدة الملآى بخيراتِ الشرق .
أما اليوم يا صاحبي ، فإننا نكادُ نصولُ ونجولُ في الفضاء وعلى سطحِ القمر والمريخ ، وقد أضحت الدنيا بلدةً صغيرةً وأضحى اختراعُ الأمس بائتًا عتيقًا اليوم ، وطغت التقنيةُ على كلِّ حياتِنا ووجودِنا ، في هذا اليوم فقدنا كلَّ شيء ، فقدنا المحبةَ هذه التي نفتش عليها بألفِ فتيلةٍ فلا نجدها ، وخسرنا الطمأنينةَ ، أما القيمُ والشيمُ والمروءةُ فحدّثْ عنّها ولا حرج ، فقد اختفت كما اختفى السُّمنُ والزرزورُ والامطارُ الهادرةُ وجاء الجديد .. !! ومن قال أنَّ لا جديدَ تحت الشمس ، فالجديدُ يملأ كلَّ اكنافِ المعمورة .
فانظرْ يا رعاك الله اينما وكيفما شئتَ ، تجدِ الاغانيَ المائعةَ والاجسادَ المتأوّهَ " المتفزعة " والرجولةَ المخنثة ، والاقراطَ تزيِّنُ آذانَ الشباب ، والهيروينَ سيّدَ الموقف ، والسرقاتِ تدبُّ في كلِّ ليلةٍ في الاحياءِ والبيوتِ والمصانع ، أما العنفُ بأنواعِه وأشكالِه فلا يهدأُ أبدًا ، فتراه يتمرّغُ في وعلى ارضيةِ حياتِنا ليلًا ونهارًا صبحًا ومساءً ، في النوادي والمدارسِ والمعاهدِ والشوارعِ والبيوت .
لقد أضحى العنفُ جزءًا من حياتِنا ، وحيّزًا من وجودنا ، فامّحت هيبةُ المعلمِ وديستْ كرامتُه تحت وطأةِ ما يُسمّى بالتربيةِ الحديثة ، فانقلبتِ الآيةُ وغدا الطالبُ يعتدي على معلمِه في حين كان المعلمُ مُربّيًا يزرعُ الاخلاقَ الحميدةَ ويسقيها بالحنانِ والأبوّةِ وأحيانًا بالعقابِ المعقول !
سقى الله تلك الأيام
[email protected]
أضف تعليق