الإسلام ليس "حماس"

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

وقع تحت ناظري في الآونة الأخيرة مقال للحاخام شلومو أفينير يتهّجم فيه على الإسلام والمسلمين كافّة، حاضرهم وماضيهم، عربهم وعجمهم، يحرّض ضدّهم، ويصفهم بأنهم كلّهم "حماس"!
كان من الواجب أن أردّ عليه وأبيّن له زيف ما يدّعي وضحالة وعيه للتاريخ ولتعاليم الإسلام، وخطورة تفوّهه بهذه التصريحات في مثل هذه الأوقات العصيبة التي تمرّ فيها البلاد:

"حماس" ليست الإسلام!
الإسلام حجّة على أهله وليسوا هم حجّة عليه.
تجدر الإشارة، بداية، إلى أن مثل هذه الكلمات التي صدرت عن الحاخام تعبر عن أسلوب دونيّ عديم المسؤوليّة، وتعتبر تحريضًا ضدّ فئة واسعة في البلاد وضدّ العالم العربي والإسلامي أجمع. لا سيّما في فترة حسّاسة كهذه التي نعيشها والتي نشعر، جميعنا، خلالها بتدني الشعور بالأمان وضبابية المرحلة، ولعلّ الذي يجعل مثل هذه التصريحات تزداد قبحا هو أنها تصدر من رجل دين معروف.
ونحن نؤمن بتوجيه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: "من قال فليقل خيرا أو ليصمت"، ولا يخفى على عاقل حكيم أن لكل مقام مقال ولكل زمان كلمة حكيمة تراعي المصالح العامة، تحفظ السلم والأمن وأرواح الناس.
مثل هذه الأقوال التي تفوّه بها الحاخام تشرعن أعمال العنف التي تقوم بها المجموعات المتطرّفة؛ الأمر الذي يعتبر سفك دم، لا أقل من ذلك، لملايين المسلمين الأبرياء في البلاد والعالم، الذين يعارض أغلبهم كثير بشدّة العنف عامّة والعنف الديني خاصةً.

سوف أقسّم كلامي على محورين مركزيين، الأول فكريّ دينيّ، وأمّا الثاني فتاريخيّ.

المناداة بالسلام كحجر أساس في الفكر الإسلامي.
لا يوجد في القرآن، ولا آية واحدة حتّى، تحثّ على الاعتداء على الآخرين. بل على العكس تمامًا، فالقرآن الكريم والسنّة النبوية على حدّ سواء يناديان بإحلال الأمن والسلام كأولوية قصوى، ويرسّخان روح الشراكة بين خلق الله عمومًا. السلام هو حجر الأساس في الإسلام وتحقيقه يشكل هدفًا أسمى بالنسبة للمسلمين. فعلى سبيل المثال يصرّح الله تعالى في القرآن الكريم: {هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ... } (الحشر 23)
"السلام" اسم من أسماء الله الحسنى المذكورة في القرآن الكريم. وإن أسمى مقاصد الإسلام أن تنعكس صفات الله تعالى في خلقه، فعلينا السعي لتحقيق السلام النفسي والسلام في الأسرة والحيّ والعالم الخ.. وإنّ تبنّي صفات الله تعالى والاصطباغ بصبغته هو أعلى درجات العبودية عند المسلمين.
إله السلام وضع تحقيق السلام كهدف عالميّ، وأمر ببناء الكعبة لتكون مدرسة للأمن والسلام كما ورد في القرآن: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا..} (البقرة 125)
ومنهاج تلك المدرسة هو القرآن الكريم بذاته، الذي يعلن عن رسالة السلام بقوله: {..قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ..} (المائدة 15-16)
وإن معلّم هذه المدرسة هو رسول السلام محمد ﷺ الذي ربّى أصحابه وأتباعه على إلقاء السلام "على من عرفت ومن لم تعرف". (البخاري)

والسلام لا يكون للأصدقاء فحسب، بل للأعداء أيضًا، نعم الإسلام يريد السلام للمجتمعات المعادية للمسلمين فكريا وعقائديا.. وكل ما هو مطلوب منها أن تكفّ شرّها وأذاها عن المسلمين. فالقرآن الكريم يعلمنا أن النبي محمد ﷺ نادى ربه بألم وحرقة: {وَقِيلِهِۦ يَٰرَبِّ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمٌ لَّا يُؤۡمِنُونَ}. "لا يؤمنون" تعني: لا يتركوننا وشأننا بأمن وسلام وراحة.
فيسأل النبي ﷺ ربه: ماذا أفعل معهم؟ ويجيبه الله عز وجل: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف 88-89)
هذا ما يليق بالإسلام كدين عالميّ جاء للناس كافة حاملا المساواة والأخوة الإنسانية ونابذا للعنصرية والتعصّب.
باختصار: إله السلام ينادي جميع بني البشر أيًّا كانوا للسلام ولدار السلام {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ} (يونس 25)
ومن هذا المنطلق، فإن السلام هو جزء لا يتجزأ من الإسلام، وكل من يعمل ضدّ السلام والأمن يحيد عن الصراط المستقيم ويعمل بخلاف أمر الله السلام.

القيم الأخلاقيّة في الحرب:
بداية أنوّه إلى أنّ الآيات القرآنية التي تتحدّث عن القتال مرتبطة بسورتين أساسيتين، هما سورة الأنفال وسورة التوبة.
تتعلّق هذه الآيات بوضعيّة وحالة القتال فقط، ولا تشكل قيمًا أساسيّةً عامة في الإسلام. وليس أسوأ من إخراج الأمور من وعن سياقها، وخاصةً في الأمور الدينيّة. القرآن واضح لا يحتمل وجهين فيما يتعلّق بالمبادئ الأساسيّة وقت الحرب، مثلًا:
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190)
وهذا يعني أن المبادرة إلى حرب هجومية أو توسّعية ممنوع في الإسلام. وأن القتال مُتاح كوسيلة للدفاع فقط. وحتى في حالة حرب دفاعية، وضع النبي محمد ﷺ قواعد تشكل قيمًا أخلاقية واضحة لا تحتمل وجهين.
وفي كل مرة اضطر المسلمون لمحاربة أعدائهم كان النبي ﷺ يأمر قادة الحرب: "لَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا".
يعلمنا القرآن الكريم أن الهدف من وراء الحرب لم يكن يومًا احتلال الأرض أو قتل الشعب أو الحصول على الغنائم أو من أجل أي هدف ماديّ آخر. بل الهدف هو دائما رفع الظلم وإحلال السلام كما ذكر في سورة الأنفال: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال 61)
يعلمنا القرآن الكريم كيفية التعامل مع الفئات والأديان المختلفة التي لا تسعى لقتال المسلمين، لمجرّد أنّهم مسلمين، فيقول: {لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (الممتحنة:8)
إذن فالمسلمون لا يعادون أحدا لدينه أو عرقه، وإنما يعادون فقط من عاداهم وأراد أذيّتهم، وعلى هذا العداء أن ينتهي فورما يكفّ ذلك العدو أذاه، أو يستسلم. فلا أحقاد تجاهه ولا عداء مبدأي إنما هو عداء إجرائي يزول بزوال أسبابه، ويحل السلام كأولوية قصوى.

قيم تربويّة عالميّة
لقد أسس النبي محمد صلى الله عليه وسلم قيمًا عالميّة للمجتمع المتحضّر حسب الآية: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} (الحجرات:13)
وقال عليه الصلاة والسلام: "الخلق كلّهم عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" ( الطبراني)
عمليا، لن يجد أحد أي كتاب سماويّ يمكن اعتباره مرجعيّة عالميّة لكافة مجتمعات العالم كما هو القرآن الكريم، الذي يشكل قاعدة وحجر أساس للقيم العالميّة بين الأديان والشعوب. خاصة أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، {قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ} (آل عمران:3)
بالإضافة للقرآن الكريم، فإنّ المصادر الإسلامية كذلك تعكس واقعا مغايرا للوصف الذي يتبيّن من أقوال الحاخام " أفينير".

بني قريظة
بداية، يخاطب الإسلام أهل الكتاب كمؤمنين، ويأمر المسلمين أن يؤمنوا بجميع الأنبياء وجميع الكتب السماويّة.
إن "عهد الأمّة"، المذكور في التاريخ الإسلامي بشكل واضح، يشكل معاهدة سياسيّة مجتمعيّة تتبنّى اليهود وتضمهم إلى "الأمة". نتحدّث عن عهد ينصّ في أساسه أن اليهود في المدينة المنورة هم جزء من أمة النبي ﷺ، وعليه فإنهم متساوون في الحقوق.
وقد بيّنت المصادر الإسلامية المبكّرة أنّ بني قريظة، القبيلة اليهودية من شبه الجزيرة العربية، التي سكنت المدينة المنوّرة، عوقبت لاحقا لا لكونها يهودية، وإنما بتهمة الخيانة العظمى، بسبب وقوفها بجانب الأعداء في وقت الحرب (في غزوة الأحزاب)، رغم وجود معاهدة مواطنة بينها وبين المسلمين وباقي سكان المدينة المنوّرة، الأمر الذي تسبب بكارثة وطنية كادت تدمّر المدينة وتبيد أهلها.
وأما على الصعيد التاريخي، فهناك الكثير من الباحثين اليهود، منهم "شلومو دوب غويتن" و"مارك كوهن" و"دافيد فاسرشتاين" و"شلومو غيل" و" أوريئيل سمنسون" وغيرهم، ممن بحثوا وكتبوا حول حياة اليهود في ظل الحكم الإسلامي على مرّ الأجيال، ويرسم وصفهم صورة شاملة ومفصّلة عن الحياة المشتركة والصّداقة والمساواة بين اليهود والمسلمين في البلاد المسلمة على مدار مئات السنين، والتي تمثّلت بالشراكة الاقتصاديّة وعمل اليهود في دوائر الدول الإسلاميّة وعلاقات المصاهرة والعلاقات الفكرية والثقافية المتبادلة وغيرها.
في هذا السياق يوضح المؤرخ أ. د. دافيد فاسرشتاين أن اليهودية انتعشت في ظل الإسلام كما لم تنتعش في ظل أي نظام آخر، ويقول: "جميع اليهود الذين عاشوا في ظلّ الإمبراطورية الإسلامية حظوا بمكانة وحقوق مشابهة لتلك التي حظي بها المسلمون".
وقد أكّد على أن "الإسلام أنقذ اليهوديّة. إن هذا ادعاء غير مشهور وغير مريح في العالم المعاصر، ولكنه حقيقة تاريخية". (صحيفة هآرتس 13 أيار 2013)

خلاصة:
التعميم ضدّ المسلمين أنهم مؤيدون لقتل اليهود، لمجرّد أنهم يهود، ليس فقط طعن في الحقيقة والواقع، وإنما ظلم لقيم الإسلام ومُثُله العليا، وللتاريخ الإسلامي الذي شكل نموذجا عمليا دام لأكثر من 1300 عام من الحياة المشتركة.
إن الحاخام" أفينير" في كلامه يطالبنا أن نمحي وجه الواقع الذي يبيّنه التاريخ والتعاليم الإسلاميّة، وأن يُخلَق وجه جديد، وجه مشوّه يؤدي عرضُه بهذه الطريقة إلى كوارث تسفك فيها المزيد من الدماء.. ففي صالح من كلّ ذلك؟

محمد شريف عودة
أمير الجماعة الإسلامية الأحمدية في الديار المقدسة