كتب: اديب جهشان – مخرج وممثل - مؤسس مسرح السرايا العربي - يافا
سنة 1964 لم تكن سنة عادية بالنسبة لي. هذا العام كان بداية دراستي في المعهد العالي للفنون المسرحية بيت تسفي في رمات غان . من هنا كانت البداية .
بداية غير عادية في فترة غير عادية كان بها شعبنا يرزح تحت وطأة الحكم العسكري . شابان من حي وادي النسناس في حيفا يقرران الانضمام الى هذا المعهد العالي عام 1963 فيتقدمان الى امتحان القبول للمعهد من القرن الماضي وينجحان .
في الموعد المحدد لبدء الدراسة سنة 1964 ركبنا القطار وسافرنا من حيفا الى تل ابيب في ساعة مبكرة , ومن هناك ركبنا الباص رقم 61 من محطة القطار الى المعهد في رمات جان. ونزلنا في المحطة القريبة من المعهد في شارع حيبات صهيون.
اليوم الأول لدخولنا المعهد كان اشبه بالحلم . لم ندخل للصف لان المدير ابراهام اسيو طلب من السكرتيرة ان تبلغنا الانتظار في غرفة الاستقبال وجلسنا ننتظر, بينما دخل طلاب السنة الاولى والثاتية والثالثة الى قاعات الدراسة والصفوف ونحن لا زلنا بالانتظار. بعد مرور أكثر من ساعة حضرت السكرتيرة وطلبت منا التوجه للقاء المدير في مكتبه.
كان المدير جالسا هناك بمكتبه وبدأ الحديث معنا بالعبرية بلكنة ممزوجة بالانجليزية وكان لون وجهه الابيض اضافة للهجته الانكليزية يشيران الى انه قادم من بلاد المملكة البريطانية بلاد شكسبير. بدا المديركضابط بريطاني يقوم بتحقيق عسكري لمعرفة سبب قرارنا دراسة الفن المسرحي؟ وكان هذا هو سؤاله الوحيد .سؤال غريب لم نتوقعه , خاصة بعد ان اجتزنا امتحان القبول . فطلب منا ان نقنعه لماذا نريد تعلم الفنون المسرحية بما معناه ان ندافع عن أنفسنا "بتهمة" اختيار تعلم الفن المسرحي !.
ابتسمت وقلت له بشكل واضح نريد ان نتعلم ما هو من حقنا وبضمن ذلك الفن المسرحي. وقمت عندها بتوجيه سؤال اليه كيف يحق لكم اقامة مسرح عبري في موسكو 40 سنة قبل قيام الدولة ونحن ابناء هذه البلاد ألا يحق لنا اقامة مسرحنا ؟ واخبرته اني قمت بدراسة تاريخ المسرح العبري وكيف تأسس مسرح هبيما في موسكو وأضفت كل الاحترام لكم وسوف يأتي اليوم الذي ستقول لنا انت كل الاحترام لكم . ما يحق لكم يحق لنا . وكان سكوت بعدها طلب منا الانتظار مرة أخرى خارج المكتب وانتظرنا .
بعد الاستراحة الصباحية عاد الطلاب الى صفوفهم ونحن لا زلنا ننتظر وعندها حضر المدير وطلب منا ان نتبعه فتبعناه ووصلنا الى احد الصفوف في الطابق الثاني فقال لنا ان ننتظر بالخارج . بعد دقائق عاد ليقول لنا تفضلا ادخلا فدخلنا ووقفنا داخل الصف , وقف المدير ووقف استاذ التاريخ جدعون فتكلم المدير وقدمنا لطلاب الصف " سوف ينضم اليكم طالبان عربيان من حيفا اديب جهشان ويوسف فرح "
عم الصمت أثر هذا التصريح الصادم كما يبدو, وبهدوء تسللنا الى المقاعد الخلفية وجلسنا هناك. وبعد لحظات ترك المدير الصف وتابع استاذ التاريخ جدعون الشرح عن تاريخ المسرح اليوناني .وهكذا ابتدأنا يومنا الدراسي الأول .
الدراسة والسفر يوميا من حيفا الى رمات جان كانا مضنيين وذلك لأنه لم نستطع استئجار بيتا بالبلد للرفض القاطع بتأجير كل بيت طرقناه لكوننا عربا واتضح ان ذلك مهمة مستحيلة ,وخلال ما يقارب ثلاثة اشهر لم يتحدث معنا الطلاب اليهود .
ومع مرور لايام بدأ الثلج بالذوبان ونشأت بداية علاقات مع الطلاب اليهود التي اخذت بالتطور بشكل طبيعي . أذكر ان احدى الطالبات قالت لي مع مرور الايام انه يوم دخلنا للصف ارادت ان تصرخ لا مكان للعرب هنا ولم تفعل وهي سعيدة لذلك , وطالب آخر قال لي واعترف انه لم يعرف اي عربي من قبل الا من خلال منظار البندقية واليوم بدأ ينظر الى عيوننا مباشرة . الطالبة تركت الدراسة عند نهاية السنة الاولى والطالب صاحب البندقية استمر بالدراسة حتى النهاية وأصبحنا اصدقاء حتى اليوم .
اليوم ونحن بشهر آذار الثقافة عام 2024 وبعد ان مر ستون عاما على بدأ دراستي الفن المسرحي, أقر واعترف انني لم أندم يوما على قراري اختيار هذا الموضوع وتحدي الصعوبات بهذا الطريق اذ انه يوم دخلنا للدراسة في المعهد انا وصديقي يوسف فرح فتحنا الباب امام الطلاب العرب الذين يرغبون الدراسة بهذا المعهد دون ان يمروا بطريق الآلام التي كانت من نصيبنا .
يتبع ....
[email protected]
أضف تعليق