عندما كنت صغيرا، كانت جدتي، التي عملت لسنوات عديدة كممرضة مسؤولة في مستشفى، تسمح لي بتناول الأشياء التي تسقط على الأرض في المنزل. حتى تلك التي تجاوزت "قاعدة الثلاث ثوان". لم يكن يُقلقها أن نضع أصابعنا المتّسخة جدًا في فمنا، أو أن نأكل نملة ما عن طريق الخطأ، فقد كانت عقيدتها واضحة: "القليل من الأوساخ تفيد الصحة"... كانت تعلم، بفضل العلم، ولكن أيضا بسبب حدسها كجدّة، أن هناك أشياء يجب أن تتكيّف أجسامنا معها، وأن المبالغة بالنظافة تُضعفنا، ومن المستحسن أن يعتاد جهاز المناعة لدى جميعنا، على مقاومة بعض الأوساخ. ولكن ماذا يحدث عندما تكون "الأوساخ" هي مَن تتكيّف، وتلائم نفسها لنا، وللعقبات التي نضعها في طريقها؟
عندما تتعلم الجراثيم "مقاومة كمّية قليلة من الدواء"، والتكيّف مع اختراعاتنا، يكون الوضع إشكاليًا بعض الشيء، ولكن عندما تُطوّر تلك الجراثيم، مقاومة للمضادّات الحيوية، والتي شكّل اكتشافها ثورة علمية بالغة الأهميّة، وتخسر الأدوية التي أنتجناها، فجأةً، المعركة ضد الجراثيم البارعة في التكيّف، فنحن أمام مشكلة خطيرة.
ويتضّح الآن أن لهذه الجراثيم الحصينة، بيئتها المفضلّة للنمو والتكاثر، إذ وجدت دراسة إسرائيلية جديدة، أن الجداول المائية الملوّثة، يمكن أن تُشكّل مركزًا لانتشار الجراثيم المقاوِمة للمضادات الحيوية، فماذا يمكننا أن نفعل حيال ذلك؟
ضربة استباقية
على مدى المئة سنة الماضية، تم استخدام المضادات الحيوية كعلاج أساسي ضد الأمراض المعدية، جرثوميّة المصدر، وكلنا خضنا التجربة، عندما نذهب إلى الطبيب، وبالكاد نخبره مما نعاني، حتى يقترح المضادات الحيوية كخيار للعلاج. ولكن لسنا وحدنا من اعتاد على وجود المضادات الحيوية في حياتهم، فقد طوّرت الجراثيم أيضا آليات للتكيّف مع العلاج بواسطة تلك المضادات. هذا المسار يكتسب زخمًا يومًا بعد يوم، وكلّما ازداد استخدام المضادات الحيوية، يزداد عدد أنواع الجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية، وهذه مشكلة خطيرة، لأن الجراثيم المقاومة للمضادات، تسبّب مرضًا أطول أمدًا، وبالتالي أكثر حدّةً في بعض الأحيان.
تتكيف هذه الجراثيم مع الأدوية المختلفة، من خلال التغيّرات في المادة الوراثية، وتراكم الجينات الفريدة التي تساعدها على تفكيك الدواء أو تحييده، بالإضافة إلى أنه في بعض الحالات، تكون الجراثيم قادرة على نقل هذه القدرات من واحدة إلى أخرى، عندما تتقاسم البلازميدات، والتي هي عبارة عن جزيئات وراثية دائرية الشكل، منفصلة عن الكروموسوم البكتيري، ولا تشكّل جزءا منه، ويمكن نقلها بسهولة نسبية بين الجراثيم المختلفة، وتحتوي على شيفرة المقاومة لتلك المضادات. أين نجد هذه المخلوقات المقاوِمة للمضادات الحيويّة؟ أولًا، في معقل الجراثيم الكبير، وهو المستشفيات، ولكن ليس هناك فقط، فهي موجودة أيضا في الطبيعة، بما في ذلك البحر.
وقد تم بالفعل، اكتشاف جراثيم خطيرة، مؤخرًا، في شواطئ الاستجمام، في جميع أنحاء البلاد، كانت قد اكتسبت قدرة على مقاومة مروحة واسعة من المضادات الحيوية، (المخصّصة لعلاج عدد كبير من البكتيريا)، والتي يمكن أن تسبّب أمراضًا معدية، مثل الالتهاب الرئوي، وحتى التهاب متعدّد الأجهزة (في عدة أعضاء بالجسم بذات الوقت). يقول الدكتور مكسيم روبين- بلوم، عالم الأحياء البحرية في معهد بحوث البحار والبحيرات، وأحد مؤلفي الدراسة: " أردنا أن نفهم المسار الذي سلكته تلك الجراثيم، وكيف وصلت إلى شواطئ البحر، فغالبًا، لا تتواجد الجراثيم المقاوِمة للمضادات هكذا دون سبب، بل تنتقل عن طريق تلوّث من نوعٍ ما."
من أجل معرفة مصدر هذه الجراثيم، أُجرِيت دراسة جديدة، بالتعاون بين روبين-بلوم، والدكتور بيليغ أستراخان، من معهد بحوث البحار والبحيرات، وبين الدكتور ريغيف كوهين، مدير وحدة الأمراض المعدية في مركز "هيلل يافي" الطبي، وبتمويل من جمعية "تسالول"، والتي نُشرت في مجلة "ساينس أوف ذا توتال إنڨايرومينت" - "Science of the Total Environment "، فحص الباحثون من خلالها، عيّنات من مياه وادي اسكندر الملوّثة. يقول روبن- بلوم: "لقد استخدمنا طريقة مبتكرة، فبعد تصفية مياه الوادي، استخلصنا الحمض النووي، ووضعنا المادة الوراثية بشكل متسلسل، حتى نتمكن من قراءتها كأنها كتاب، وباستخدام وسائل حوسبة متطوّرة، استكشفنا أي الجراثيم موجودة هناك، وما إذا كانت لديها مقاومة للمضادات الحيوية."
جريان الجراثيم
وجد الباحثون أن الجداول الملوّثة بالنفايات السائلة، (مياه الصرف الصحي المعالَجة)، ومياه الصرف الصحي الخام، الآتية من المناطق المأهولة بالسكان، والمناطق الزراعية، ومزارع الحيوانات، يمكن أن تشكّل نقطة مركزية لانتشار الجراثيم المقاوِمة للمضادات الحيوية. ويُستدلّ من نتائج الدراسة، أن هذا التفشّي للجراثيم، يتأثر بالمواسم المختلفة. ففي فصل الشتاء، يكون جريان مياه الصرف الصحي في النهر، هو ما يؤدي لنقل الجراثيم المقاوِمة، من المصادر الملوّثة إلى داخل مصادر المياه النظيفة. وفي الصيف، تتفشّى الجراثيم في أعقاب موجات الحر الخمسينية، فإن "البكتيريا تحب الحرارة"، كما يفسر روبين- بلوم.
بالإضافة إلى ذلك، وجد الباحثون أن ثلث الجينات المرتبطة بحصانة الجراثيم في وادي اسكندر، هي مشفّرة بالبلازميدات، تلك المادة الوراثية التي تستخدمها الجراثيم أحيانا، لنقل الصفات الوراثية من واحدة إلى أخرى. يقول روبين- بلوم: "صحيح انه يسود الاعتقاد أن الجراثيم كائنات بدائية وصغيرة، إلّا أنها تستطيع القيام بأشياء مذهلة، مثل نقل المواد الوراثية إلى جيرانها، وقد أشرنا في الدراسة، إلى أن هذه القدرة تتسبّب في وضع يجعلنا نُنتج جراثيم جديدة، مقاومة للمضادات الحيوية، لتنتشر بعد ذلك في الطبيعة."
محاربة الجراثيم
وفقًا لروبين- بلوم، لدينا ما نفعله حيال ذلك على المستوى الوطني، والبحثي، والشخصي. حيث يقول: "علينا إنشاء نظامًا لمراقبة الجراثيم المسبّبة للأمراض، وتلك المقاومة للمضادات الحيوية، في جميع الجداول ومصادر المياه في إسرائيل، خصوصًا بجانب تلك التي تجري في مناطق من الممكن أن تكون ملوثة، انها خطوة مهمّة وحيويّة. وبالإضافة إلى ذلك، يجب أن نواصل البحث، ومن بين الأمور التي علينا فحصها هي المسارات التي تسلكها الجراثيم لبلوغ البحر ".
ومن التدابير الأخرى التي يمكن أن تساعد في مكافحة الجراثيم المقاوِمة للمضادات الحيوية، هي الحد من إعطاء المضادات الحيوية للمرضى، عندما لا يكون ذلك ضروريًّا، وتطوير تقنيات تستطيع تحديد ما إذا كانت العدوى جرثوميّة، وتطوير مضادات حيوية جديدة، وغيرها من الطرق للتعامل مع الجراثيم، (مثل تنقية الهواء)، وتقنيات لتدمير بقايا المضادات الحيوية.
وعلى مستوى كل واحد وواحدة منا، من المهم أن نكون على دراية بمشكلة الجراثيم في الماء، وأن نتصرف على هذا الأساس. ويخلص روبين- بلوم للقول: "شيء أخير بسيط للغاية هو أنه في حال أصيب احدٌ بجرحٍ، حتى لو كان صغيرًا، فمن المهم أن غسله وتعقيمه فور خروجكم من البحر، أو من أي مصدر مائي آخر".
أعدّت المقال “زاڨيت" – وكالة الأنباء التابعة للجمعيّة الإسرائيلية لعلوم البيئة
[email protected]
أضف تعليق