ثلاثون عامًا خَلَت على اتّفاق "أوسلو"
مثّل اتّفاق "أوسلو" المشؤوم، الموقّع في 13 سبتمبر/أيلول 1993، بين منظّمة التّحرير الفلسطينيّة والمؤسّسة الإسرائيليّة، منعطفًا خطيرًا في تاريخ القضيّة الفلسطينيّة منذ نكبة عام 48، فلم يكن مجرّد اتّفاقٍ سياسيٍ فقط عند الإسرائيليين، وإنّما هدفه–عدا أنّهم تخلّصوا من مسؤوليّتهم عن سكّان الضفّة الغربيّة وغزّة- إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني وتطويعه، والعمل على إحداث تحوّلاتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ فيه، وصولاً إلى إنهاء الوجود الفلسطيني كاملةً، وأسرلته.
إنّ مراجعة حصاد ثلاثين عامًا على الاتّفاق المشؤوم هذا، تُبرهن بوضوحٍ تامٍ من هو المستفيد الأكبر منه، الّذي هو الجانب الإسرائيلي، وترسيخه للاحتلال والهيمنة أكثر في المناطق المحتلّة عام67، ورفضه إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّةٍ.
أولاً الاستيطان، بلغت أعداد المستوطنين اليهود قُبيل اتّفاق "أوسلو" حوالي 110 آلاف مستوطنٍ في الضفّة الغربيّة، و115 ألف مستوطنٍ آخرين في القدس المحتلّة، في حين يبلغ عددهم اليوم (أيار/مايو 2023) نحو 500 ألف مستوطنٍ في الضفّة الغربيّة، ونحو 230 ألف مستوطنٍ آخرين في القدس، أي ما يعادل 40% من اجمالي سكّان مدينة القدس (نقلاً عن مواقع إخباريةٍ فلسطينيّةٍ). يتوزّع هؤلاء على 145 مستوطنةٍ كبيرةٍ أو "مستوطنة الأم “، ما يشير بوضوحٍ إلى تكثيف عمليّات الاستيطان منذ التّوقيع على اتّفاق "أوسلو" حتّى اليوم (أيلول/سبتمبر 2023).
ثانيًا الاقتصاد، عزّز اتّفاق "أوسلو" المشؤوم حالة التبعيّة والارتهان للاقتصاد الإسرائيلي بعدما تمّ التّوقيع على الملحق الاقتصادي لاتّفاق "أوسلو" في باريس عام 1995، ممّا أفقد الاقتصاد الفلسطيني الاستقلاليّة الذاتيّة، وبات مرهونًا للمتغيّرات والظّروف السياسيّة، لا بل والسياسيات الاقتصاديّة الإسرائيلية. فأصبح الاقتصاد الفلسطيني حبيس الاتّفاقيات التّجاريّة الخارجيّة، والعملة الإسرائيليّة، وملتزمًا بالنّظام الجّمركي للمؤسّسة الإسرائيليّة، ممّا أضرّ كثيرًا بالحالة الاقتصاديّة والمعيشيّة للفلسطينيين، وأفقدهم القدرة على التّصدير والاستيراد، لا بل والوصول إلى الأسواق العالميّة.
ثالثًا المياه، سيطر الاحتلال الإسرائيلي بعد التّوقيع على اتّفاق "أوسلو" على حوالي 85% من المصادر المائيّة الفلسطينيّة، ممّا أثّر كثيرًا على معدّلات استهلاك الفلسطينيين للمياه. ويسيطر الاحتلال أيضًا على مياه نهر الأردن والبحر الميّت والأغوار، في حين يعاني قطاع غزّة أيضًا من شُحٍ في مياه الشّرب وتلوّثٍ فيها، ممّا أضرّ/ويضرّ كثيرًا بصحّة المواطنين الفلسطينيين هناك، ناهيك عن إشراف وسيطرة السّلطات الإسرائيليّة شبه الكاملة على المياه الإقليميّة الفلسطينيّة في القطاع.
رابعًا القدس، استُثنيَت مدينة القدس من اتّفاقيات "أوسلو"، وتمّ ادراجُها ضمن ما عُرف ب “قضايا الحلّ النّهائي"، ولم تخضع لأراضي السّلطة الفلسطينيّة، فتحوّلت مع الوقت إلى منطقةٍ مهمّشةٍ ومعزولةٍ عن بُعدها الجّغرافي ضمن أراضي الضفّة الغربيّة المحتلّة، فأقدم الإسرائيليّون على إقامة مشاريع استيطانيّةٍ تهويديّةٍ ضخمةٍ بهدف أسرلتها مثل: قضايا التّعليم، والضّرائب، وسحبٍ للهويّات، وزيادة أعداد المستوطنين في المدينة وغيرها، وإفشال أيّ مشروعٍ لضمّها لأراضي السّلطة الفلسطينيّة أو جعلها عاصمةً للدّولة الفلسطينيّة العتيدة.
خامسًا المسجد الأقصى، أدّى التّفاوض في ظلّ اتّفاق "أوسلو" على المسجد الأقصى ومطالب الإسرائيليين بأسفله إضافةً إلى محاولاتهم تقسيمه زمانيًا ومكانيًا، إلى احتدام الصّراع عليه، وما نشهده الآن من حالات اقتحامٍ يوميّةٍ للمسجد، وتدنيسه المستمرّ من قطعان المستوطنين، وبعض القيادات السياسيّة والصهيونيّة والدينيّة، دليلٌ واضحٌ على أنّ المعركة على الأقصى طويلةٌ.
استغلّت السّلطات الإسرائيليّة حالة الجمود والقطيعة مع الفلسطينيين فباشرت في فرض حقائق على الأرض في المسجد الأقصى المبارك، فكثّفت من قمعها للمصلّين والمرابطين فيه، وإبعاد الكثيرين من روّاده عنه، في محاولةٍ لإيجاد نوعٍ جديدٍ من سياسة الأمر الواقع.
سادسًا الأسرى، استمرّت السّلطات الإسرائيليّة رغم توقيعها على اتّفاق "أوسلو" في عمليّات الاعتقال اليومي في حقّ الفلسطينيين بدعاوٍ كثيرةٍ غير مبرّرةٍ، لا بل زاد قمعها للأسرى الفلسطينيين من خلال التعرّض لهم ورفض إطلاق سراحهم، وعزل بعضهم في زنازين انفراديّةٍ، ومنع الزّيارات عن آخرين منهم أيضًا، لا بل زادت حالات السّجن الإداري، ممّا أوصل عدد الأسرى اليوم إلى أكثر من خمسة آلاف أسيرٍ فلسطيني.
وأخيرًا فالعجب كلّه، ممّن لا يزالون يتمسّكون بشيءٍ اسمه "أوسلو"، في حين أنّ الإسرائيليين أنهوه مبكّراً، أمّا شعبنا فلن يفقد البوصلة أبدًا، ولن يتنازل عن حقوقه الشّرعيّة وثوابته الدينيّة والوطنيّة، مهما كانت الظّروف وسنبقى نردّد دائمًا "شعبنا الباقي وهم عابرون".
[email protected]
أضف تعليق