وقّعت الولايات المتحدة والهند والعربية السعودية والإمارات العربية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي -على هامش قمة العشرين في نيودلهي - ، التي انعقدت مطلع هذا الشهر في نيو دلهي ولم يشارك فيها الرئيس الصيني شي جين بينغ ، مذكرة تفاهم لإنشاء ممر عابر للقارات يشمل سككا حديدية وربط موانئ ومد خطوط وأنابيب لنقل الكهرباء والهيدروجين بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات . شي جين بينغ كان على علم بأن بايدن سوف يطرح مشروعه على قمة العشرين ، ولعل هذا كان وراء قرار عدم مشاركته . بوتين هو الآخر لم يشارك في تلك القمة لاعتبارات مختلفة على صلة بالحرب الدائرة في اوكرانيا يعرفها الجميع
الرئيس الأمريكي جو بايدن وصفَ المشروع بأنه سيغير قواعد اللعبة ، وقال إنه يشمل مشروعات للسكك الحديدية وربط الموانئ البحرية ، إلى جانب خطوط لنقل الكهرباء والهيدروجين، وكابلات نقل البيانات . وقد أظهرت الرسوم المسربة للمشروع أنه سينطلق من الهند إلى الإمارات عبر بحر العرب ، ثم منها إلى السعودية فالأردن ، ومنه إلى دولة الاحتلال الاسرائيلي لينتهي في ميناء حيفا .
وقد بدا المشروع وكأنه مصمم للتشويش على " مبادرة الحزام والطريق " وفي تنافس معها ، وهي مشروع الاستثمار الكبير في البنى التحتية الذي تولت من خلاله الصين تمويل إنشاء جسور وموانىء ومحطات توليد الكهرباء وسكك حديدية وإنفاق وشبكات " الجيل الخامس " (جي 5 G) للخليوي حول العالم ، وربط آسيا بأوروبا عبر أفريقيا والشرق الأوسط ، وتحفيز الاستثمار ، حيث تصل الاستثمارات الصينية المتوقعة إلى أكثر من تريليون دولار بحلول عام 2027 ، وذلك في قطاع الموانئ والمطارات وشبكات الطرق والسكك الحديدية والاتصالات السلكية واللاسلكية ومحطات توليد الطاقة .
" ممر بايدن العظيم " ، الذي تم الاعلان عنه في نيودلهي هو المحاولة الثانية للتشويش على " مبادرة الحزام والطريق " الصينية . فقد سبق ان حاول الرئيس بايدن نفسه فعل الشيء نفسه قبل عامين ، حين أعلن في حزيران 2021 ، في اجتماع " مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى " ( ج 7 ) الذي عقد في بريطانيا عن مبادرة أسماها " إعادة بناء عالم أفضل ، التي عرفت باسم " بي 3 دبليو " " Build Back Better World " حيث يتكرر الحرف " ب " ثلاث مرات في العنوان ، الذي أعطاه بايدن لمبادرته في حينه ، وذلك للمساعدة على " تلبية الحاجات المتزايدة والضخمة للبنى التحتية في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط " وباعتباها بديلا أو منافسا للمبادرة الصينية ، التي من شأنها أن ترهق اقتصاد الدول النامية وتغرقها في فخ وأزمات ديون ، كما تدعي الادارة الاميركية . هي حرب مفتوحة تشنها الولايات المتحدة ضد المبادرة الصينية
مشروع بايدن " بي 3 دبليو " طواه النسيان في أقل من عامين ، بايدن نفسه نسي مشروعه ، فقد أدرك أن الولايات المتحدة الأميركية ليست في وضع يؤهلها للدخول في منافسة على هذا الصعيد مع الصين الشعبية وتحديدا على مستوى بناء البنى التحتية لبناء عالم جديد وفق المعايير الأميركية . فالصين وفق تقديرات الخبراء على هذا الصعيد تتفوق ليس فقط على الولايات المتحدة ، بل وعلى جميع الدول الرأسمالية ، فالشركات الصينية تهيمن على العروض التنافسية لمقرضي البنية التحتية البارزين حول العالم كـالبنك الدولي ، حيث ربحت الشركات الصينية عقود بناء بنية تحتية خارج الصين ممولة من البنك الدولي في عام 2020 بقيمة 2.3 مليار دولار مقارنة بعقود الولايات المتحدة بقيمة 27 مليون دولار . فضلا عن ذلك فمن أصل أكبر 20 مؤسسة مقاولات بناء حول العالم ، يوجد 14 منها في الصين و 6 في أوروبا ، ولا يوجد منها شيء في الولايات المتحدة.
الآن هل يمكن أن يكون للمبادرة الأميركية الجديدة " الممر العظيم " حظا أوفر من الحظ التاعس لمشروع " بي 3 دبليو " وهل المبادرة الجديدة مصممة فعلا في خدمة الأهداف التي تم الاعلان عنها في قمة العشرين في نيودلهي . خبراء اقتصاديون يشككون في ذلك ، إذ لو كان الدافع للمبادرة دافعا اقتصاديا تنمويا للدول متدنية ومتوسطة الدخل لراعت في الحد الادنى التنسيق مع المبادرة الصينية " الحزام والطريق " أو التكامل معها بشكل أو بآخر . لم يفعل بايدن ولم تفعل قمة العشرين ذلك في مؤشر واضح على ان الاقتصاد لم يكن المحرك الأساس للمشروع الاميركي . فضلا عن ذلك لم يعر المشروع حدا أدنى من الاهتمام لدولة مثل تركيا على الرغم من أنها إحدى أعضاء الاقتصادات العشرين الكبرى وفيها ما يقرب من مائة مليون إنسان يشكلون سوقا حقيقيا ، ولماذا تجاهل دولة مثل مصر رغم كونها البوابة إلى قارة أفريقيا وفيها هي الأخرى كتركيا مائة مليون إنسان يشكلون سوقا مهما . أبعد من ذلك فإن مشروع السكك الحديدية أو خط النقل البري إذا هو انطلق من الهند الى الشرق الاوسط فمن الأجدى ان يمر من باكستان فافغانستان فايران او باكستان فايران الى الخليج بحرا او الى العراق برا او الى تركيا ومن ثم الى اوروبا . لم يدخل في حسابات مشروع يدعي محاولة بناء عالم أفضل من ذلك العالم ، الذي ترسم صورته " مبادرة الحزام والطريق " الصينية .
هل ذلك يعني الحكم سلفا على المشروع من خلال النظر في جدواه الاقتصادية او التعقيدات التي تنتظره في الطريق . هذا سؤال لا يمكن تجاهله في تقييم جدوى المشروع . من رسوم الخرائط لهذا المشروع يبدو جليا انه سوف يمر بعدد من الموانئ يتم فيها التحميل والتفريغ هي الهند والامارات العربية المتحدة والسعودية ودولة الاحتلال الاسرائيلي وأوربا . ومن المعروف هنا ان تكاليف تفريغ السفن وثم تحميلها يستغرق وقتا ومصاريف باهظة الكلفة ، ما يجعل الخط غير تجاري . فالسفن من الهند عبر قناة السويس تصل اوربا في وقت اسرع وبكلفة ارخص . أما النقل البري عبر الامارات العربية والسعودية والأردن ودولة الاحتلال فليس بمقدوره عملياً أن ينافس من حيث الوقت والتكاليف النقل البحري عبر قناة السويس على سبيل المثال ، هذه القناة ، التي تستحوذ على 12% من حجم التجارة العالمية المنقولة بحراً . فالقطارات لا يمكنها أن تدخل في منافسة مع سفُن النقل العظمى ، فسفينة واحدة منها تحمل في نقلة واحدة ، كل الحاويات التي يمكن أن تنقلها القطارات في مئة رحلة برية .
ما يجب ان يحسب له حساب هو موقع العربية السعودية في هذا المشروع ، وأهميته بالنسبة لخططها التنموية ، على أن مشاركة السعودية في المشروع في حال كان حظه أوفر من حظ " بي 3 دبليو " يتوقف على مدى خدمته لمشاريعها التنموية كمشروع " مدينة المستقبل " التي يقوم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ببنائها على مساحة 26.5 كيلومتر مربع ، تصل الاستثمارات المقدرة فيها إلى 500 مليار دولار ، وهي مدينة تقع في غرب البلاد ، ويتطلب الأمر الكثير من التفكير حول كيفية ربطها بمشروع بايدن في ممره العظيم .
بعد هذا كله ، ما موقع دولة الاحتلال الاسرائيلي في مشروع " الممر العظيم " الذي أعلنه الرئيس جو بايدن في نيودلهي في قمة العشرين . من تابع بنيامين نتنياهو وهو يعلق على المشروع يتبادر الى ذهنه ، إذا كان يجهل ميل هذا الرجل للحركات الاستعراضية امام الخرائط والرسومات ، التي يبدي ولعا زائدا بها . في الأمم المتحدة وقف ذات مرة يشرح برسوماته أخطار القنبلة النووية الاسرائيلية ، وهكذا فعل مع مشروع " الممر العظيم " . نتنياهو ، الغارق في أزماته الداخلية ، ظهر كعزباء تروي لزميلاتها قصة طاووسها ، الذي جاءها في المنام . فقد احتفى بالإعلان عن " الممر العظيم " وظهر في مقطع فيديو عبر منصات التواصل الاجتماعي يبين فيه بالخرائط مسار المشروع الذي ذكر أن إسرائيل سوف تكون في قلب مشروع دولي غير مسبوق من شأنه أن يحقق رؤية طويلة الأمد ستغير وجه الشرق الأوسط ووجه إسرائيل . أما وزير خارجيته إيلي كوهين فقد احتفى هو الآخر بالمشروع باعتباره يعزز الربط بين دول الاتفاقيات الإبراهيمية وإسرائيل ، باعتباره جزءا من رؤية السلام الإقليمي وآخر ثمرة من ثمار " اتفاقيات إبراهيم " التي تم التوقيع عليها قبل 3 سنوات والتي من شأنها أن تغير وجه الشرق الأوسط وتعزز الاستقرار والازدهار لشعوب المنطقة وتخفض تكاليف المعيشة للإسرائيليين .
ذلك اشعل سجالا سياسيا في عدد من وسائل الاعلام العربية ، حيث جرت المبالغة في موقع دولة الاحتلال الاسرائيلي في المشروع وسقط في الظل الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة الاميركية في تنافسها المحموم مع الصين الشعبية . غاب عن أذهان كثيرين أن رأس المال لا تجمعه علاقة طيبة مع السجالات السياسية بقدر ما تتحكم في سلوكه البيئة الاستثمارية والعلاقة التنافسية ، التي تهدد فرصه في تعظيم أرباحه ، في ظل تطورات تجري على مستوى العالم تهدد زعامة الدول الرأسمالية الغربية وخشيتها من فقد سيطرتها أحادية القطبية على حاضر ومستقبل النظام العالمي . فالصين قوة اقتصادية ضخمة تثير الفزع في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية وتقلص باستمرار الفارق بينها و أمريكا باستمرار من حيث الناتج القومي الاجمالي ، وحجم اقتصادها يعادل ستة أضعاف حجم اقتصاد الهند .
وعلى كل حال فإن خطط الادارة الاميركية برئاسة جو بايدن او غيره من الرؤساء للحفاظ على الهيمنة والتفرد في قيادة النظام العالمي ، بالحروب بالوكالة ، كما هو الحال بالنسبة للحرب في أوكرانيا ، أو بمشاريع من نوع " بي 3 دبليو " أو " الممر العظيم " ، غير مضمونة ، فضلا عن أنها محفوفة بكثير من المخاطر ، خاصة اذا ما أخذت العلاقة مع الصين منحى مشابه للعلاقة مع روسيا . فالصين هنا ليست روسيا ، وهي في ظل التحديثات الاربعة التي أقرها حزبها الشيوعي الحاكم عام 1978 واستراتيجية الصعود السلمي عام 2003 اخذت تتقدم بمعدلات نمو قياسية تثير مخاوف الولايات المتحدة الاميركية . يكفي للتدليل على ذلك القاء الضوء على بعض المؤشرات المرعبة بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية ومنها نمو الناتج القومي الاجمالي الصيني من 1.66 تريليون عام 2003 الى 14.72 تريليون دولار عام 2020 ونمو الانفاق العسكري من 33 مليارد عام 2003 الى 252 مليارد دولار عام 2020 وزيادة براءات الاختراع من 32 الف عام 2007 الى 361 الفا عام 2019 متجاوزة بكثير مثيلاتها في الولايات المتحدة الاميركية فضلا عن ميزان تجاري عالمي ينمو بسرعة كبيرة لصالح الاقتصاد .
[email protected]
أضف تعليق