يعمل عدد من دول العالم على تدريس الهولوكوست في البرامج الدراسية، غير أن المثير في الأمر هو لماذا لا تقدم هذه الدول، مع استثناءات قليلة، على تدريس جرائم الاستعمار، أو جرائم الحروب عامة التي كانت ضحيتها شعوب وإثنيات دون أخرى؟ ويعتبر موضوع الهولوكوست من المواضيع المقدسة في الغرب. نعم، لا يمكن نهائيا إنكار حدوث جرائم فظيعة وغير إنسانية جدا تعرض لها اليهود خلال حكم النازية في ألمانيا. ومما يزيد من مأساوية الوضع أنها استهدفت ديانة محدودة الأفراد جدا، مقارنة مع الإسلام والمسيحية. نعم، لا يمكن كذلك إنكار كيف حولت بعض التيارات الثقافية والسياسية في الغرب هذا الحادث المأساوي إلى سيف ديموقليس ضد كل من ناقش بعض جوانبه وضد كل من حاول الدفاع عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
في هذا الصدد، وصل إلى البرامج التعليمية في العالم العربي موضوع الهولوكوست، لاسيما من طرف الدول التي قامت بالتطبيع الشامل مع إسرائيل من بيغاسوس إلى الثقافة. وهكذا نجد دولا عربية تقمع إثنيات وتتستر على جرائم ارتكبتها في حق الأقليات، تتبنى الهولوكوست وأدمجته في البرامج التعليمية. وبالموازاة مع هذا، ظهرت طبقة من المثقفين والمؤرخين في العالم العربي تستميت في الدفاع عن الهولوكوست، وأحيانا أكثر من إسرائيل نفسها.
ويبقى التساؤل المثير، لماذا تدريس الهولوكوست، دون باقي الجرائم التاريخية الأخرى؟ إذا قمنا بمراجعة البرامج التعليمية الغربية، ومؤخرا كذلك لبعض الدول العربية، نعثر على حيز مخصص لجرائم الهولوكوست، وفي المقابل، تغيب جرائم الاستعمار الغربي، خاصة الأوروبي. في الوقت ذاته، نجد بعض الدول ترفع الاستعمار إلى مصاف المبادرات الحضارية التاريخية الكبرى. ويمكن الاستشهاد في هذه الحالة بفرنسا، التي كان رئيسها الأسبق والمدان بالسجن، نيكولا ساركوزي قد هدد بالعقوبات الحبسية والمالية ضد كل من تجرأ على اعتبار الاستعمار الفرنسي جريمة من جرائم الإنسانية. ونجد حكومات فرنسا تعيش مفارقة كبرى، فهي حاسمة في إدانة كل من شكك في الهولوكوست، وحاسمة ضد كل من تساءل عن جرائم الاستعمار، وما زالت هذه الحال تهيمن وسط الطبقة الحاكمة وبين جزء من المثقفين في فرنسا، على الرغم من بدء باريس الوعي ببشاعة الجرائم التي ارتكبتها في افريقيا وآسيا. لقد رافق الاستعمار الأوروبي وقوع جرائم فظيعة، أنهت حياة عشرات الملايين من البشر، ويكفي الاطلاع على ما عانته بعض الشعوب، ونذكر منها الكونغو، وكيف قتلت بلجيكا أكثر من مليون شخص، وشوهت رقما مماثلا بعدما حول الملك ليوبولد هذه المنطقة الافريقية إلى ضيعة خاصة له.
في الوقت نفسه، يمكن الاطلاع في الأرشيف الفرنسي نفسه على الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في شمال افريقيا، خاصة في المغرب والجزائر، حيث كانت بعض البطاقات السياحية في فرنسا تحمل رؤوسا مقطوعة لمقاومين مغاربة وجزائريين تباع في الأكشاك. ويمكن رؤية ما فعلت دول أوروبية مشتركة وهي ألمانيا وفرنسا وإسبانيا من استعمال الغازات السامة ضد منطقة الريف شمال المغرب، حيث ما زالت آثار هذه الجريمة البشعة حاضرة من خلال تسجيلها أعلى نسب الإصابة بالسرطان في المغرب وشمال افريقيا برمته. ونجد جزء مهما من الطبقة المثقفة والأكاديمية ترفض خوض نقاش الجرائم التي ارتكبها الاستعمار لسببين، الأول، ارتباط الأنظمة الحاكمة بالدول الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا. ويتجلى السبب الثاني في أن الكثير من أفراد هذه الطبقة لا يمتلكون روح المبادرة، ويعتقدون أن المواضيع والمواقف التي لا تصدر سياسيا وثقافيا من باريس ولندن، لا تستحق الاهتمام وكأنها خارج سياق الزمن و»الموضة الثقافية». وفي بعض الأحيان، لا يمتلك المؤرخ الجرأة الفكرية في تناول بعض المواضيع مثل، حالة استعمال الغازات السامة في شمال المغرب خلال العشرينيات من القرن الماضي للقضاء على ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، لقد حصل عدد من المثقفين المغاربيين على وسام الجوقة الفرنسية، هل تجدون منهم واحدا يندد بالاستعمار الفرنسي؟ وفي المقابل، نجد منطقة أمريكا اللاتينية وقد بدأت تتحرر من ثقافة الماضي، ورغم خروج الاستعمار الإسباني منذ قرنين، باستثناء في حالة كوبا حتى نهاية القرن التاسع عشر، تبادر الطبقة المثقفة والأكاديمية بفتح ملف الاستعمار الأوروبي. وقد نشهد في القارة الافريقية وضعا مشابها مستقبلا في ظل تراجع النفوذ السياسي الفرنسي، الذي سيحمل معه تراجع طبقة مثقفة افريقية مرتبطة بباريس منذ عقود. هذا الوعي الآخذ في التبلور سيفرز مستقبلا حركة ثقافية ستجعل موضوع الجرائم التي ارتكبها الاستعمار الأوروبي في القارة الافريقية والعالم العربي عنصرا رئيسيا في تكوين الهوية الثقافية والسياسية الجديدة لشعوب المناطق المذكورة. وسيكون من تجلياته الكبرى، جعل موضوع جرائم الاستعمار من المواضيع الرئيسية في البرامج الدراسية، وليس فقط في مادة التاريخ، لشرح الجرائم، بل لشرح الكثير من الجوانب الأخرى ومنها لفهم أن أسباب تخلف القارة الافريقية والعالم العربي هو من نتائج النهب الذي مارسه الاستعمار ضد خيرات هذه الأوطان، ثم كيف ترك هذا الاستعمار طبقة حاكمة مرتبطة به، ويكفي الاطلاع على حسابات الحاكمين الحاليين في البنوك الغربية.
إن التركيز فقط على إدماج الهولوكست في البرامج التعليمية مقابل تهميش جرائم الاستعمار الأوروبي، التي تعرضت لها الشعوب، يعتبر وصمة عار ويعد خيانة من طرف الحاكمين ضد مواطنيهم.
[email protected]
أضف تعليق