ما هو أبعد من حدود مجزرة شفاعمرو!؟
حين يتحوَّل الموت عن مساره الطبيعي، فإنه يحمل عندها قيمة تختلف ومعنى آخر.. وحين تسير الأحداث بين حَشْرَجَات الموت فإنها تغدو تاريخية بمعناها القِيَمي والوجودي.. وحين تُحَدِّد الأحداث بتسارعها آفاق رؤيتنا، وبالتالي سلوكنا، فإن الحياة عندها تبدو من مكوّنات الموت وليس العكس.. فالموت نسبيّ، مهما كانت ماديته حاضرة وحضوره ماديّ.. أيْ ليس كل ما هو ساكن ميتاً، وليس كل ما هو متحرِّك حيًّا..!!؟؟
وحين يحضر العقل لمراقبة الأحداث وتشخيصها، بعيداً عن الانفعال والارتجالية، عندها قد تتسع دائرة الفهم، وبالتالي رؤية ما ورائها وما بعدها، من خلال ما فيها، فيزيد الحراك الذهني من حيّز حركة الإدراك حتى تبدو الصورة أكثر وضوحاً، وإنْ بدت سُريالية في مشهد ظهورها الأوليّ، بعيداً عن الجمالية ومقاييسها المتحركة أبداً...
فهنالك أحداث وأشياء من حولنا ممكن النظر إليها بالبصر، ولكن هنالك من الأحداث ما يُلزِم أن ننظر إليها بالبصيرة، بعيداً عن الألوان التي قد نراها، وقد تبدو تشاؤمية، فالتشاؤم الذي يصدر عن بصيرة يُشكّل الفعل الأساس للتفاؤُل الحقيقي..
وعند الكتابة ينبغي محاولة ترجمة ما نراه بالبصيرة، فالكتابة والكلمة، إذا ما كانت أصيلة وضاربة في العمق ومقاتلة، إنما تُشكِّل المقدمة الأولى للفعل، ولإحداث التغيير...
ولا أقصد بهذه المقدمة "الموجزة" الالتفاف الكلامي على الأحداث، ولا التَّفَذْلُك العبثي في مساحات لا يجوز العبث فيها أو خلالها.. إنما أحاول استحضار مفاتيح أساسية وضرورية في مسيرة البحث عن معنى،
والتي قد تقود، وليس بالضرورة، إلى حالة إرادية من العبث...
ما زلنا أمام مشهد ينبغي التوقف عنده مَلياً
أمّا و"الحدث" مُسجّى أمامنا، ساطع الاحمرار، بعد سنوات من حدوثه، فإننا ما زلنا أمام مشهد ينبغي التوقف عنده مَلياً، دون الإفراط في التوقف أو المغالاة في مجرد الحديث الماضَوي، الذي قد يولِّد حالة من الهذيان الأسطوريّ...
فالجريمة الإرهابية في شفاعمرو، لم تُفاجىء مَنْ حاول ويحاول قراءَة ورصد ما سبقها، من تراكمات كمية ونوعية من أحداث ومواقف وإشارات، دون أن يعني هذا أنها حدث عادي عابر.. ولا نسعى هنا لتناول هذا "الحدث" بعقلية وديناميكية السياسة اليومية الآنوية، ولا إلى صبغهِ بالمواقف والكلاشيهات التحليلية البيانية أو الخطابية التقليدية..
فقد حضرت هذه العملية الإرهابية، لتقطع قول كل خطيب، ولتدعونا بصراخ هادىء، وعلى إيقاع حركة الموت، لننتفض على السيناريوهات التحليلية المُعَدَّة سلفاً، وعلى ما هو بائس من أدوات التفكير البالية، حتى نتمكن من فهم الذات وبالتالي من قراءَة "الآخر" قراءة غير لاهوتية..!؟ فالقراءة المتحرِّرَة من رواسب وموروثات الماضي وسَطْوَة الحاضر، إنما هي القادرة على استشراف المستقبل، أو المساهمة في صناعته على أقل تقدير..
فدلالات هذه المجزرة الإرهابية تجاوزت حدود الحدث والمكان والزمان، واخترقت كل طقوس السرد والتفاصيل والكلمات التوصيفية، إلى ما هو أبعد من جغرافيا الصِّراع بل عكست طبيعته الحقيقية...
فهذه الجريمة لم تُنفَّذ، باعتقادي واعتقاد الكثيرين، بفعل فاعل فرديّ في مكان وَضْعيّ، بل هي ترجمة لفكر وثقافة وممارسة امتدت عشرات السنين من الزمان.. وهي أكثر الجرائم شفافية في فهم الثقافة المسيطرة على المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية. وما هذا الإرهابي الصغير إلا تجسيداً لذلك التيار المتنامي ليس في السياسة الإسرائيلية فحسب، بل وفي الثقافة الاسرائيلية أساساً، وفي هذا المعنى يصبح هذا الحدث ناطقاً رسمياً مُتألِّقاً باسم جوهر "الآخر"، بطبعه وبطبيعته، وقابلاً للتكرار...!؟
ولم يكن دور وسائل الإعلام الإسرائيلية العبرية، في الساعات الأولى للحدث على وجه التحديد، إلاّ تعبيراً جلياً ليس فقط على دورها وإنما للثقافة التي تمثلها... فماذا يعنى تشويش الحقائق وتضليل الرأي العام؟! ولماذا لم تتوقف وسائل الإعلام الإسرائيلية، المرئية والمسموعة، من بثها الاعتيادي لنقل وقائع هذا "الخبر" غير الاعتيادي، كما قامت وتقوم وستقوم في حالات أُخرى من أحداث "القتل والإرهاب"، رغم الحذر من المقاربة والمقارنة؟! وأية عناوين اختارت وسائل الإعلام المذكورة في نشراتها الإخبارية وصُحُفها؟! ولماذا بدت وكأنها تراجعت فيما بعد لتبدو أكثر "موضوعية"، ولأَية أهداف وأغراض؟!
لماذا صمت جميع الساسة الإسرائيليين في الساعات الأولى
ولماذا صمت جميع الساسة الإسرائيليين في الساعات الأولى، ومن ثم تلعثموا، وبعدها أبْدَوْا موقفاً "حادًا" ضد الجريمة، حتى بدا وكأنها مواقف متميزة براديكاليتها "وايجابيتها"؟!
من جانبٍ آخر.. هل كان ردنا بمستوى الحدث؟! وهل تصرفنا بالمستوى المطلوب أمام هوله وأهواله؟! وهل نجحنا في استثمار "الحدث" لاختراق محدودية الواقع والإمكانيات؟! وهل استطعنا بردنا أن نضمن عدم تكرار مثل هذه الجريمة، وشكَّلنا بذلك "قوة ردع" ؟! وهل استوعبنا ما جرى أصْلاً؟!
إنها ليست مجرد تساؤلات مفتوحة أو مبهمة تبحث عن أجوبة، بل هي محاولة لولوج "الحدث"، حيث في يميني "لماذا" وفي يساري "كيف" وأمامي "إلى أين"..!!!
نعم.. نحن أمام مختلف السيناريوهات، وبصدد جميع الاحتمالات.. وما هو مطلوب أن نَفْقه جيداً بأن قوانين العلوم السياسية والاجتماعية، وغيرها من العلوم، مُسْتَمَدَّة من قوانين الطبيعة وجدلية العلاقة بين العِلَّة والمَعْلُول، ولا وجود للصُدَف أو العَشْوائية في حركة التاريخ وفي صيرورة الحياة..
نعم.. لا وجود للعنصرية في إسرائيل
فلا ينبغي إزاء أي تهديد وجودي، لا سيما في وطننا، أن نتصرف جماعياً بأقل مما تتصرف على نحوه حتى باقي الكائنات الحية في مواطنها الطبيعية٬ في مواجهة المخاطر والتحديات التي تهدد وجودها، كحق غريزي بل كواجب طبيعي.. فنحن أصحاب المكان الأصليين وجزء من شعب وقضية ولسنا بمعزلٍ عن تلك البيئة المحيطة، التي تؤثر فينا وينبغي أن نؤثر فيها وعليها، بمختلف دوائرها القريبة والبعيدة، لأن الحَياد يعني الموت المتحرك.. ولا أدعو هنا إلى الخروج عن نِطاق الحكمة والمسؤولية، إنما هي دعوة لإعمال العقل والرصد والتخطيط، ومن ثم لتحريك الشجاعة والإرادة وتفعيل حضورها الغائب، تحت اهتزازات "الواقعية"!! نعم.. لا وجود للعنصرية في إسرائيل، لا في الظاهر ولا في الباطن، فقد جرى تجاوزها مُنذ أمدٍ بعيد.. لأن الفاشية قد أطاحت بها وحَلَّت مكانها وتربَّعت على عرش العقلية المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية وثقافة مجتمعها، والاحتلال والاستيطان هما مَصادر أساسية لصناعتها.. ولماذا العجب، فهي الدولة، أو الكيان السياسي، الوحيد في هذه الحقبة الزمنية التي تُؤسِّس وجودها وتعريفها وهويتها وديمومتها، على أساسٍ أيديولوجي تَوْراتي - صهيوني وقومي بَحْت...
نعم .. يجب ألاَّ نستبعد، في مرحلة ما وفي ظروف وإمكانيات اضطرارية، احتمال أو ضرورة مواجهة الفاشية، في إحدى أخطر مراحل نموها في البلاد، وإلاَّ فإنها ستنقضُّ على ما تبقى من أملٍ في مستنقع الألم الذي يعيش في عَفَنِه الشعبان!؟ فالفاشية لا قومية لها، وعندما تبدأْ في تغييب الآخر – الفلسطيني (في حالتنا)، فإنها لا بد أن تقضُم أيضًا ما تبقَّى مِن قوى سلامية وتقدمية وديمقراطية حقيقية في ذاتها – اليهودية الإسرائيلية... ومن هذا "العبقري" و"العقلاني" الذي يستبعد إمكانية مثل هذا الاحتمال..؟! لا سيما بعدما باتت الفاشية الإسرائيلية في الحكم، وفي صميم السياسة الإسرائيلية ومجتمعها.. فالفاشية الإسرائيلية هي وليد طبيعي للصهيونية ومَكْنونها، ومن أعلى مراحل "تطوّرها"، حتى باتت الصهيونية تُهدد ليس وجودنا، المادي والثقافي فحسب، إنما وجود "الآخر" نفسه أيضًا..!!؟؟
فالخلاصة أننا في قلب الصراع، ورأس الحَربةِ فيه، ولا بد لنا أن نتسلَّح، بالوحدة الوطنية والعلم وبناء الإنسان القادر والمجتمع النوعي والتقدمي، وأن نتحلّى بالحكمة والمسؤولية وبالشجاعة في آنٍ واحد، على قاعدة ثقافة العقل النقدي لا الإذعاني، كَقِيَمة إنسانية ووجودية عليا، إذا أردنا فعلاً أن نحيا بمعنى ذي قيمة، لا مجرد أن نُقيم في هذه الحياة... فاحترام الذات شرط ضروري لفرض احترام الآخرين لنا...
إنها محاولة متواضعة لقراءة مُوجَزة "لحدث ما" في سبيل الفهم، لا تخلو من نقد الذات فيما هو آت...!؟
[email protected]
أضف تعليق