لعل أكثر ما يخشاه فلاديمير بوتين ومعه الطغمة الحاكمة في روسيا، هو ثورة روسية ملونة؛ ثورة تندلع على حين غرة، تخلخل نظام الحكم، وتزعزع أركانه، وتفتح الباب واسعاً أو موارباً أمام تغييرات شبيهة لما يجري ويدور في أنحاء العالم الكبير والضيق في آن.
وتعبير “ثورة ملونة" كان النظام في روسيا الاتحادية من اختاره تهكماً على الثورات الحاصلة في دول الجوار، وما هو أبعد من الجوار، بوازع الاستخفاف بها والتقليل من شأنها، وإيذانا بوصمها بالعمالة والخيانة والارتهان لقوى اجنبية خارجية مشبوهة منفذة لأجندات غربية وغير ذلك من الأوصاف.
التهكم والاستخفاف كان لحق بثورة الشعب الجورجي عام 2003 والتي وصفت حينها بالوردية، وبثورة شعب التيبت عام 2008، والتي سميت بالقرمزية، وبثورة الشعب الأوكراني عام 2004، والتي عادت وتجددت في 2013، ووصفت بالبرتقالية، وبثورة الشعب الإيراني عام 2009، والتي وصفت بالخضراء؛ هذا بالإضافة إلى ثورات خضراوات أخرى اندلعت في تونس ومصر وسوريا وليبيا ابتداءاً من عام 2011ـ وسميت فيما بعد بثورات الربيع العربي.
ولعل تسمية ثورات الربيع العربي بهذا الاسم ما هي إلا اقتباس لأسماء ثورات أخرى حملت اسم الربيع، تفتحت، كي لا نقول تفجرت، في بودابست وبراغ في عامي 1956 و1968 على التوالي في المجر وتشيكوسلوفاكيا ضد التبعية للنظام السوفياتي، أو للمعسكر الاشتراكي ولحلفه العسكري المسمى بحلف وارسو.
معلوم لنا جميعاً، أن هذه الثورات قد ووجهت جميعها بالقمع الدموي. وكانت جنازير الدبابات قد سحقت زهور ربيع معظم هذه الثورات وغيرها، بالمفهوم المجازي وبالمفهوم المباشر، كما حصل لاحقاً في ميدان تيانان من في بيكين في عام 1989، حيث ذهب ضحية هذا السحق المئات وربما الآلاف.
ما يميز هذه الثورات هو أنها تندلع فجأة، ومن مكان غير متوقع بتاتاً ولكنه غالباً ما يكون في العمق، أو في نقطة ضعف ما حول "كعب أخيل"، ومن صميم مشاعر متأججة متجمعة مختزنة لحشود محتشدة تواقة لنسائم حرة وآبية على نفسها الركون للصمت والذل والخنوع. ولسوء طالع الأنظمة المستبدة، والنظام الروسي أحدها، إن هذه الثورات غالباً ما تنفجر في وجوه ممثليها ورموزها، أو ما بين أيديهم وأصابعهم.
لعل ما يميز هذه الثورات كذلك تموجات ألوانها المتعددة، وانعكاساتها وانتقالها، بسرعة البرق احياناً وبسرعة الرسائل الصوتية أحياناً أخرى، من قرية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، دون أي اعتبار لحدود سياسية أو جغرافية ودون تفرقة ما بين شعب وآخر، أو ما بين عرق أو لون أو دين.
هي كالعدوى، ولعل ما يخيف الأنظمة الحاكمة المستبدة هو استحالة وقف انتقالها واستحالة التحصن ضدها؛ فلا طعماً مضاداً ممكناً لها ولا مصلاً. فهي تنتقل وتتوسع وتمتد وتنتشر انتشار النار في هشيم أوراق الشجر الجافة، دون إذن ودون سابق إنذار، فأين المفر؟
من سوء حظ هؤلاء، ومن سوء حظ الاتحاد الروسي، أن العدوى اندلعت مؤخراً في حدائق خلفية قريبة. فقد اندلعت في أوكرانيا وجورجيا وكازاخستان وروسيا البيضاء. كان الطعم المضاد الوحيد المستخدم في هذه الحالات هو الدبابة والطائرة والصواريخ الفرط صوتية ومشتقاتها على اختلاف أنواعها.
ما حصل في روستوف
لم تتمكن قوات الاتحاد الروسي من إخماد ربيع أوكرانيا، رغم جميع المحاولات اليائسة، فكان لا بد من إدخال الدبابات والطائرات كالعادة، وكان لا بد لهذا التدخل أن يطول وأن يتعثر لما يزيد عن أربعة عشر شهراً. كانت محاولات وأد هذا الربيع في مهده ضرورة قصوى كي تكون أوكرانيا عبرةً لروسيا نفسها، أي للشعب الروسي نفسه، فيما لو سوّلت له نفسه أن يضعف أمام فيروسات هذه العدوى.
وكان لا بد، في خضم الحرب الروسية الشعواء على أوكرانيا، أن تقع الفرقة ما بين رفاق السلاح الواحد، كما يبدو، وهو سلاح توزع ما بين أيدي عصابات الجريمة المنظمة المتحدة والمتحالفة والمتنافسة في آن. كان لا بد أن يدب الخلاف بين رفاق السلاح الملوث بدماء الأبرياء الذين تجرأوا على الثورة.
حصل أن اختلف الرفاق فيما بينهم، وحصل أن رفع بعضهم السلاح في وجه بعضهم الآخر، وان استنجد بعضهم بعصابات مرتزقة أخرى. حصل أن تمردت جماعة (أوعصابة!) ونزلت بعتادها الثقيل وبمجنزراتها ودباباتها الحديثة وبعناصرها الملثمين، لتستولي على مقر القيادة العسكرية المركزية. هل هو انقلاب؟ يحصل هكذا "ترتيبات" بين رفاق السلاح الواحد أحياناً في بعض الدول "العظمى"!
كانت روستوف على الدون شاهدة على محاولة الانقلاب التي لم تستمر طويلاً، ذلك قبل أن يتدخل زعيم عصابة ورفيق سلاح مجاور، تجمعه صداقة مشتركة مع الأطراف المتنازعة، ليعمل على فض الخلاف، ولو إلى حين، وبأقل الخسائر.
ردة فعل الشعب؟
لكن ما رأي الشعب بما حصل؟ ولماذا لم يهبّ دفاعاً عن دولته ونظامه ورئيسه المفدّى ضد من اتهموا بالخيانة وبالغدر وبالطعن في الظهر في زمن الحرب؟ ولماذا وقف موقف المتفرج أمام هذا المشهد الغريب وغير المألوف؟ بل وما تم بثه من صور ومشاهد أظهر تعاطف السكان وتضامنهم مع الانقلابيين وتشجيعاً لهم. لعل ما يمكن اعتباره دافعاً لذلك ليس الحب تجاه عصابات فاغنر، بقدر ما هو الاستبشار ببداية تصدع النظام الروسي القمعي الفاسد المستبد، حيث أن القلاع الحصينة أول ما يبدأ سقوطها من داخلها.
إن أكثر ما كان يخشاه النظام الحاكم قد وقع على الأرجح، فهل هي العدوى قد انتقلت وتخطت الستار الحديدي، وبدأت بالانتشار في مفاصل الدولة؟ وهل هي إرهاصات ثورة روسية ملونة بدأت بوادرها تلوح في الأفق، قادمة لا محالة، حتى لو استطالت ما أسموها ب "الأزمة" لأيام وربما أكثر؟
وهل هذا هو السبب الذي ساعد في الإسراع بقبول أي حل طارئ بمساعدة من صديق موثوق، حاله لا يختلف كثيراً عن حال أصحاب الشأن في الاتحاد الروسي، ذلك كي لا يقع الأسوأ والأخطر وينفرط العقد كما انفرطت عقود سابقة، كانت في مرحلة من مراحلها عصية على الانفراط، وأبعد ما تكون مهيّأة للوقوع أمام عدوى جارفة وأكيدة لا مناص منها ولا فرار؟
[email protected]
أضف تعليق