كتبت الإعلاميّة الكاتبة ريتا الخَوَنْد:
بعض العباقرة يولدون مرّة واحدة فقط وَلا يكرّرهم الزّمن...هم يولدون مرّة ولا يموتون، وَعاصي واحد منهم وُلِد منذ مئة عام ولم يَمُت حتى يومنا هذا، بالرّغم من موته الجسدي في العام ١٩٨٦.
٣٧ سنة على غيابه، ولم ينل الرّحيل من بريق وروعة نتاجاته الفنيّة الفريدة. أتى فريدًا إلى الدّنيا والفنّ، وفريدًا رحل، وكان حتّى في فترة توعّكه الصّحي في سنواته الأخيرة مِن النّوع النّادر من المبدعين القادرين على الإبهار، وعلى قول ما لم يُقَل بالكلمة والنّغمة وعلى استنباط وصياغة أبجديّة جديدة كلاميّة وموسيقيّة، جدّدت في الموسيقى اللّبنانيّة في شكل خاص كما العربيّة،فوُلِدت على يده بِمعية شقيقه منصور مرحلة غنائيّة شكّلت أروع مراحل الغناء اللّبناني والعربي المعاصر.
في الشِّعر، كتب المحكيّة والفصحى وقدّمت كلماته صورًا رقيقة وممتعة وفريدة حدّ الدّهشة، ربّما لأنّه كان يغرف مِن لبنان الجميل وطبيعته الخلّابة الّتي جعل منها حضنًا دافئًا لِحكاياته الجميلة ولأبطال تلك الحكايات. مفرداته صوّرت لبنان الوطن والأرض، بِصوَر بهيّة سجّلت قفزة نوعيّة، عندما انتقلت من استوديوهات الإذاعة إلى خشبات المسارح في
لبنان والعالم على شكل حفلات غنائيّة ثمّ مسرحيّات، صوّرَت الوطن بأحلى صورة وَالقِيم الإنسانيّة بأعمق وأرفع تجلياتها، فتناقلناها من جيل إلى جيل، وصارت جذورنا وتراثنا الّذي اغتنى إبداعًا، وأسّس مع السيّدة فيروز لِهوية لبنانيّة فنيّة فريدة، ورسّخ صورة لبنان في الوجدان الجماعي -- لبنان عاصي الرّحباني-- الّذي تماهى من حيث الجمال والكمال مع جمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي الفاضلة،حيث تتحقّق سعادة الإنسان على أكمل وجه، في مجتمع كامل يتعاون أفراده بوجه كامل على تحقيق الأمور الّتي تُنال بها السّعادة .
عشق اللبنانيّون وطن عاصي وَمنصور حتّى الثّمالة، وعاشوا الحلم وكأنّه يقين.
في سنيه الأخيرة وهو على فراش المرض، لم يتوقّف عاصي الرّحباني عن التأليف والإبداع الموسيقي بالرّغم من فقدان النّطق والحركة، واستعان بالملحّن والمؤلّف الموسيقي اللّبناني رفيق حبيقة لِتدوين النّوتات، وظلّ يقاوم المرض والموت بالموسيقى وَالتأليف، وَهنا تكمن عظمة هذا العبقري اللّبناني الّذي أنجبه لبنان مرّة واحدة، لِيُعيد هو إنجاب لبنان - --لبنان عاصي ومنصور-- خارج حدود الواقع اللّبناني مئات المرّات، ونحن نعيش ذاك ال لبنان اليوم حسرةً لا تنتهي، بعدما أطاحه أهله ودفعوا به إلى دوّامة العنف، على عكس وطن الأخوين الكامل الأوصاف الّذي حلم عاصي للبنان ببلوغه ذات يوم.
إلّا أنّ عاصي الرّحباني الّذي ربّما بالغ بوصف سحر لبنان وجماله لم يتهاون في نقد السّلطة والفساد وفي توجيه رسائل تعكس ما هو حاصل على أرض الواقع اللّبنانيّة، وتحثّ على الإصلاح والتّكاتف وإعلاء مصلحة الوطن على كل المصالح الأخرى، فهو بالنّتيجة لم يكن ليكتفي بوطن يسكن الغيم والحلم، إنّما كان يطمح بِلبنان متحقّق وحَيّ، أوّلًا في ضمائر حكّامه ومواطنيه، وثانيًا شامخ مرتفع فوق مداميك صلبة من الإنسانيّة والعدل والصّدق والمساواة والسّيادة والاستقلال وهو أقلّ ما يُقال أنّه استطاع أن ينسج علاقة وثيقة بين النّاس والوطن !!!
عاصي الرّحباني الإنسان الذي ولد في مثل هذا اليوم الرابع من أيّار ١٩٢٣ ثمّ مات في ال ١٩٨٦، يقوم كلّ يوم من الموت في صوت #فيروز ...هو المقيم والقاطن في نبضات ذلك الصّوت الملائكي!!!
وَعاصي الرّحباني العبقريّ الأسطوري الّذي مضى على ذكرى ولادته مئة عام بالتّمام والكمال، قد ننتظر ألف عام قبل أن يولد لنا فنّان بعظمته... وقد لا يولد!!!
[email protected]
أضف تعليق