حلّ علينا شهر نيسان من هذا العام حاملا معه أعيادا لجميع طوائف المجتمع العربي، ما يجعله شهر الأعياد والأفراح، واللمّات العائلية، والموائد، والأكلات الشهيّة، والسفر، وغيرها. ولكن الى جانب الجوانب الجميلة للأعياد فان عادات وسلوكيات استهلاكية مفرطة لا تمت للدين او للعادات بصلة باتت تطغى عليها دون الاكتراث لتأثيرات هذه السلوكيات على صحتنا، على البيئة وعلى جيوبنا.
لعل أكثر الظواهر المنتشرة في الأعياد هي ظاهرة هدر الطعام والتي هي عبارة عن الطعام الذي يتم التخلّص منه دون استخدامه، وذلك خلال أي من المراحل الاربع من سلسلة الامداد الغذائي: الزراعة، والتجهيز، والتسويق، والاستهلاك. تتجلّى هذه الظاهرة من خلال أطنان النفايات التي تتكوّم خلال السنة، وخصوصا خلال الأعياد، بسبب الإفراط في شراء واعداد الطعام والولائم والوجبات التي تتعدى احتياجاتنا. على سبيل المثال، تدعي منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إن الفرد في منطقة الشرق الأوسط يهدر متوسط 250 كغم سنويا من الغذاء، وإن هذا الهدر يزيد في شهر رمضان المبارك ليصل إلى 350 كغم.
في هذا السياق، اعدّت وزارة البيئة الإسرائيلية بالتعاون مع جمعية "ليكيط يسرائيل" تقريرا حول هدر الطعام وفقدان الطعام في إسرائيل لعام 2021. يُشير التقرير ان ثمن هدر الطعام في إسرائيل يُقدّر بمبلغ 3.6 مليار شاقلا سنويا، كما وأن حجم الضرر البيئي (من خلال فقدان موارد طبيعية) الناتج عن هدر الطعام يُقدّر بـ 1.4 مليار شاقلا، حجم انبعاثات غازات الدفيئة تُقدّر بـ 1.4 مليار شاقلا، وأما عملية معالجة النفايات تُقدّر بقيمة 0.8 مليار شاقلا. يُشير التقرير، أيضا، ان 6% من انبعاثات غازات الدفيئة في البلاد مصدرها في النفايات العضوية، وكمية المياه التي هُدرت نتيجة هدر الطعام تكفي لملء 57،000 بركة رياضية.
مضار متعددة ومتنوعة لظاهرة هدر الطعام
هنالك مضار متعددة ومتنوعة لظاهرة هدر الطعام أولها هو هدر الموارد الطبيعية كالتربة، والمياه، والبذور، والأيدي العاملة، حين نقوم برمي الطعام إلى حاويات النفايات. ثانيا، في الدول التي لا تزال تعتمد على الدفن بشكل أساسي كوسيلة للتخلّص من النفايات (إسرائيل مثلا)، دفن النفايات العضوية يحمل مضار كبيرة على التربة والمياه الجوفية كما ويؤدي الى انبعاث غاز الميثان، وهو إحدى غازات الدفيئة الخطيرة، التي تُساهم في تفاقم أزمة المناخ. ثالثا، يؤثر هدر الطعام على فقدان التنوع البيولوجي على المستوى العالمي، حيث انه من أجل توفير الغذاء يتم تحويل الغابات والمناطق البريّة إلى أراضٍ زراعية ومراعي.
ترتبط ظاهرة هدر الطعام بظاهرة ثقافة الاستهلاك بشكل وطيد، وهي الدافع الأساسي للشراء المفرط للمنتجات الغذائية. ثقافة الاستهلاك هي أسلوب حياة ذا صلة مع الحديث ولعالم الإعلانات التي تُشجّع الناس على استهلاك منتجات جمّة ومختلفة لا ضرورة لها، وهو ما يؤدي إلى استهلاك مُفرِط وغير محسوب للموارد الطبيعية، وقد تكون لذلك عواقب هدّامة للإنسان والبيئة. باتت هذه الثقافة مغروسة في أذهاننا بشكل لا يسمح لنا حتى ان نطرح على أنفسنا السؤال، ما إذا كنا بحاجة إلى هذا الكم الهائل من الطعام، إلى هذا الكم من الولائم والوجبات المتعددة؟ كما ويجب ان نطرح على أنفسنا السؤال، ماذا سنفعل مع الطعام المتبقي من وجباتنا، هل نقوم بتخزينه لليوم التالي واستخدامه؟ أم ينتهي به المطاف إلى حاويات النفايات.
هنالك جانب آخر لا يتم الحديث عنه كثيرا في سياق أعيادنا، وهو استخدام البلاستيك أحادي الاستعمال خلال العزائم والولائم، لكي يتم التخفيف من عبء التنظيف. ولكن، مع التخفيف من عبء التنظيف نحن نضع أجسادنا وبيئتنا تحت تأثيرات ضارة علينا. تُشير الدراسات وتؤكد المضار الوخيمة للبلاستيك على صحّة الإنسان، على قدرة جزيئات البلاستيك التغلغل والترسّب في الأعضاء المختلفة كالرئتين، والدماغ، والكلى، والكبد. إضافة إلى ذلك، وُجد بقايا بلاستيك في دم الأجنّة، الدليل على ان جزيئات البلاستيك لا تترسب في الأعضاء فقط، انما قادرة على اختراق الأنسجة والانتقال إلى الجنين عبر المشيمة. من جهة أخرى، يؤثر البلاستيك أحادي الاستعمال على البيئة بشكل كبير، لكونه مصنوع من مواد غير عضوية، وبالتالي عملية تحليله قد تستغرق مئات السنين. ثانيا، كما ذكرنا سابقا، تتعامل إسرائيل مع النفايات بشكل عام من خلال الدفن، وبالتالي يلوّث البلاستيك التربة، والمياه الجوفية، والبحار، كما ويؤثر على التنوع البيولوجي (أي الحيوانات البريّة كانت ام المائية). ثالثا، حين يتعرّض البلاستيك إلى أشعة الشمس، يبدأ بعملية إطلاق غازات الدفيئة إلى طبقات الجو، داخل بيوتنا او في الأماكن العامة، الأمر الذي يُساهم في تفاقم أزمة المناخ ويلوّث الهواء الذي نقوم باستنشاقه.
آثار بيئية وتبذير الأموال جرّاء هدر الطعام
إلى جانب الآثار البيئية وتبذير الأموال جرّاء هدر الطعام، هنالك نقطة إضافية يجب التوقف عندها وهي تأثير أزمة المناخ على الأمن الغذائي. بات أمر أزمة المناخ حقيقة لا يمكن التشكيك بها، وهي تؤثر على مناحٍ متعددة لحياتنا، اهمّها مناليّتنا للقوت والمياه الصالحة للشرب. يؤثر الحر الشديد والبرد القارص على المحاصيل الزراعية، وأحيانا على صحّة المواشي، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على المنتجات الغذائية، وعلى جودة المنتجات وعلى أسعارها وقدرتنا على اقتنائها. لذلك، نحن في ساعة حرجة جدا تحثّنا على إدراك ما هو قادم وكيفية التعامل معه، وما هي مسؤوليّتنا، الجماعية والفردية، في كيفية التعامل معه، خصوصا على ضوء المعطيات الأخيرة التي تُشير إلى ان المجتمع العربي في الداخل يتعرّض إلى عدم الأمن الغذائي بنسبة أكبر بأربعة مرات من المجتمع اليهودي غير المتديّن. أي وبكلمات أخرى، يواجه المجتمع العربي خطر عدم الحصول إلى غذاء كاف وصحّي بشكل أكبر بـ 4 مرّات من المجتمع اليهودي غير المتديّن.
لنجعل بيئتنا وصحتنا في سلّم اولوياتنا، خلال أعيادنا وباقي السنة، لأن المس في البيئة هو المس بنا وبصحّتنا، وبحق أولادنا والاجيال القادمة بتوفير موارد طبيعية لهم وضمان الاستدامة. تحتل البيئة أعلى سلّم اولوياتنا حين نقلل من الاستهلاك غير الضروري، ونقلل من النفايات العضوية، ونستهلك الغذاء بحسب حاجتنا.
[email protected]
أضف تعليق