تخيلوا للحظات بأنكم تتمشون في مدينة تحبونها بشكل خاص. ما الذي تشاهدونه حولكم؟ مبانٍ مثيرة، أماكن مشاهدة للطبيعة وجادات مليئة بالمقاهي والمطاعم؟ من المحتمل أن تحتوي على الأقل واحدة من الأماكن المفضلة لديك في المدينة على مناظر طبيعية - منتزه أو أشجار تزين الشوارع أو مزروعات جميلة للتنزه قربها.
في العقود الأخيرة، دلّت الكثير من الأبحاث على الأثر الإيجابي لتواجدنا في بيئة طبيعية على صحتنا الجسدية والنفسية. لكن بالمقابل، مع وتيرة النمو السكاني والتمدّن المتسارعين اللذان نتجت عنهما حقيقة أن حوالي نصف سكان العالم أصبحوا يعيشون في المدن – وغدت المساحات المأهولة بالسكان مكتظة للغاية، مما يهدد من وجود المناطق الطبيعية التي نحتاجها.
مع ذلك، تشير نتائج دراسة أمريكية نُشرت مؤخرًا في مجلة British Ecological Society إلى ظاهرة إيجابية: فقد وجد الباحثون أن الأحياء المأهولة بالسكان يمكن أن تكون مكتظة وخضراء في نفس الوقت - وتبيّن أن هناك العديد من الطرق للقيام بذلك.
الأخضر جيّد للصحة
تشهد العديد من الدراسات اليوم على الآثار الإيجابية للمناطق الخضراء على صحتنا. فهي تحسن أداء جهاز المناعة لدينا، وتقلل مشاعر الغضب والتوتر، وتحسن الذاكرة والتركيز وحتى زيادة متوسط العمر المتوقع. بالإضافة إلى ذلك، تساعد الأشجار في تنظيف الهواء من الملوثات، وتقلل من درجة حرارة ما حولها، كما تساهم الجزر ذات الطبيعة المدنيّة في تحسين التنوع البيولوجي للمدينة.
قام الباحثون الذين أجروا الدراسة الجديدة بفحص أكبر 100 منطقة مدنية في الولايات المتحدة، حيث يعيش ما يقارب من 167 مليون شخص، وفحصوا العلاقة بين الكثافة السكانية في هذه المناطق (أي عدد السكان لكل وحدة مساحة) وبين مناطق في المدينة التي يسري عليها تعريف "منطقة التغطية العلوية"Tree canopy cover) ) - أي جميع المناطق في المدينة التي اذا تواجدتم فيها ستكون هناك أوراق شجر فوقكم.
لم تكن النتائج الأولية مفاجئة بشكل خاص: بحسب البحث، ونظرًا لحقيقة أن الكثافة السكانية العالية تؤدي للحاجة إلى مساحات مثل الأرصفة والطرق - تؤدي زيادة الكثافة بنسبة 10% إلى انخفاض متوسط قدره 3% في المساحات الخضراء، أو بعبارة بسيطة: المناطق الأكثر كثافة هي أقل خضرة أيضًا. الى هنا، كان معظمنا قد خمن النتائج أليس كذلك؟ لكن الباحثين لم يتوقفوا عند هذا الحد ووصلوا إلى نتائج مفاجئة.
كيف تريدون أن يكون لونكم الأخضر؟
عندما ألقى الباحثون نظرة فاحصة على الأحياء التي اختاروها في الولايات المتحدة، بدت الأمور مختلفة: أصبح من الواضح لهم أنه حتى في أكثر المناطق كثافة سكانية بالبلاد، هناك عدد لا بأس به من الأحياء المكتظة التي تمكنت أيضًا من أن تكون خضراء بشكل كبير. في هذه الأحياء كانت كمية المساحات الخضراء أكبر بثلاث مرات على الأقل من مساحة المساحات الخضراء في الأحياء الأخرى ذات الكثافة المماثلة.
عندما قاموا بفحص نفس الأحياء، اكتشفوا طريقتين رئيسيتين لتخضير المناطق المدنية المكتظة: اكتظاظ المناطق السكنية نفسها لإتاحة المجال بإنشاء المزيد من المساحات الخضراء القريبة منهم، ودمج المساحات الخضراء داخل المناطق المبنية نفسها. من أجل التعمق في دراسة هذه الأساليب، قام الباحثون بفحص مدينتين تستخدمهما على نطاق واسع: كوريتيبا في جنوب البرازيل وسنغافورة في جنوب شرق آسيا.
يعيش حوالي 2 مليون شخص حاليًا في كوريتيبا، وهي مخططة وفقًا للنهج الأول بتخضير المناطق المأهولة المكتظة: تقليل المناطق السكنية وتخصيص مساحات للمناطق الخضراء. يوجد في المدينة 35 متنزهًا، وأكثر من ألف منطقة محمية، ونظام ناجع للمواصلات يتيح سهولة الوصول إلى المناطق الخضراء المختلفة. أيضا، تم التخطيط للحدائق والبحيرات حول الجداول والمناطق المنخفضة في المدينة؛ وذلك لحمايتها من الفيضانات المتكررة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، توفر المدينة محفزات لإنشاء RPPN (Private Natural Heritage Reserves - محميات خاصة، تُستخدم للبحث والتعليم والسياحة البيئية وغيرها) - ومن الواضح أن طريقتهم فعالة، لأنه في كوريتيبا هناك محميات أكثر من أي مدينة برازيلية أخرى.
الحالة الثانية في الدراسة كانت سنغافورة، وهي دولة مدينة (دولة تتكون من مدينة واحدة فقط)، والتي تعد واحدة من أكثر البلدان كثافة في العالم: في منطقة أكبر بقليل من مساحة منطقة القدس وضواحيها، يعيش حوالي 5.5 مليون نسمة؛ على الرغم من ذلك، لُقبت سنغافورة بـ "جاردن سيتي". كيف يكون ذلك ممكنا؟ يوجد في المدينة ما لا يقل عن 350 متنزهًا و4 محميات طبيعية وأكثر من 360 كيلومترًا من مسارات المشي وركوب الدراجات وأكثر من 1600 حديقة جماهيرية. بالمقابل، فهي مليئة بالبنايات العالية، حيث يتم إلزام كل مبنى باستبدال المنطقة الخضراء التي تم بناؤه عليها بمساحة موازية خضراء، بنفس الأبعاد على الأقل؛ وهكذا فغالبًا ما تتواجد مساحات خضراء في المباني نفسها: جدران خضراء وحدائق على الأسطح وغيرها.
الأخضر يربط بين الناس
وما هو وضعنا في المناطق المكتظة مع المساحات الخضراء؟ بحسب المخطط والمستشار في مجال التخطيط موتي كابلان، فإن إسرائيل هي حالة فريدة إلى حد ما. "من ناحية، نحن من أكثر البلدان كثافة في العالم، ومن ناحية أخرى - معظم المدن في إسرائيل ذات كثافة سكانية منخفضة مقارنة بمدن العالم."
يقول كابلان، من أجل ضمان أن تحتوي مدننا على مساحات طبيعية كافية مفتوحة للجمهور، حددت وزارة الإسكان حصصًا من المساحات الخضراء – أي المساحة الخضراء المطلوبة لكل مواطن في المدينة – والذي يعتبر شرطاً إلزامياً لبناء أو تجديد الأحياء العمرانية. ومع ذلك، فمن أجل تنفيذ هذا الشرط - تتوسع المدن وتنتشر على مساحات أكبر وأكبر، بشكل يؤدي في النهاية إلى إتلاف المساحات الخضراء من حولها.
بحسب كابلان، فإن هذا الموقف فيه إشكالية فمن الممكن إنشاء مناطق خضراء حتى دون توسيعها على مساحة كبيرة. في منتزهات المدن الكبيرة، لا يدخل الناس عادة إلى عمق المنطقة، بل يبقون بأطرافها. لذلك، يجب ألا تكون الحدائق كبيرة جدًا من حيث مساحتها – بل الأهم من ذلك هو أن يكون محيطها كبير أي أن شكلها يجب أن يكون أشبه بالخط أكثر من كونه دائرة أو مربعًا أو مضلعًا.
يضيف كابلان، ان أحد الأمثلة الجيدة على هذا النوع من البناء هو متنزه السكك الحديدية في القدس، الذي شارك في تصميمه. الحديقة، التي تمتد على طول مسار سكة الحديد القديمة في القدس، هي صغيرة نسبيًا من حيث المساحة، ولكن نظرًا للطريقة الخطية التي بُنيت بها - فهي تجتذب العديد من الزوار. "يمشي الأشخاص في المتنزه ويمرون بين محطات مختلفة: يمشون على طول المسار وفي كل نقطة يلتقون بفعالية جذابة مختلفة؛ على سبيل المثال: متنزه، مركز للأنشطة الرياضية، مقاعد، مكتبة شارع، مطاعم المقاهي، وكلها توفر نقاط مثيرة للاهتمام وأماكن تجمّع تربط بين الناس "، "بالإضافة إلى ذلك، الحديقة نفسها تربط بين أحياء مختلفة في المدينة مثل حي بيت صفافا، حي الألمانية، وغيرها - كل ذلك ضمن مسار مشي سهل ومريح".
بالإضافة إلى البناء الخطّي، يقول كابلان انه علينا دائمًا فحص المساحات الخضراء الموجودة بالفعل في المدينة أو بالقرب منها. ويوضح قائلاً: "إذا كانت المدينة قريبة من حديقة أو غابة، فمن المحتمل أن السكان الذين يمكنهم الوصول إلى هذه المساحات الخضراء بمسافة مشي قصيرة لا يحتاجون بالضرورة إلى حديقة بالقرب من المنزل".
وماذا عن الطرق المقترحة في الدراسة الجديدة؟ بحسب كابلان، فإن دمج البناء الأخضر في المناطق السكنية، كما يحدث في سنغافورة، يمكن أن يكون فعالًا جدًا في إسرائيل أيضًا - من خلال البناء الأخضر على الأسطح ومواقف السيارات، والتي يمكنها حتى دمج الألواح الشمسية وكذلك من خلال الجدران الخضراء في البنايات. كما أن استخدام الجداول ومحيطها كمساحات مفتوحة في المدن - على غرار ما يحدث في كوريتيبا - هو، فعال للغاية، لأن الجداول ضيقة وطويلة وتمتد في جميع أنحاء المدينة وبالتالي فهي بمتناول العديد من سكانها. يستنتج كابلان "هناك خيارات لا حصر لها لدمج المساحات الخضراء في المدن؛ كل ما علينا فعله هو التخطيط والتفكير المنطقي وتكييف الحلول مع الظروف المحلية - وتنفيذ الأفكار على أرض الواقع".
أعدت المقال زاڤيت - وكالة الأنباء التابعة للجمعية الإسرائيلية لعلوم البيئة والبيئة
[email protected]
أضف تعليق