الاقتصاد والسياسة مقترنان لا انفصام بينهما، فالسياسة تتحكم في التوجهات الاقتصادية للبلدان، والاقتصاد هو محور الصراعات العالمية والتحالفات الدولية والدافع وراء رسم السياسات. ومما لا شك فيه أن للاقتصاد فروعاً وأقساماً تتزايد مع متطلبات العصر، وتفرزها الحاجة العالمية لمواكبة التنافس على مصادره وثماره، ومن هذه الأنواع: الاقتصاد الكمي. فقد استحوذ الاقتصاد الكمي في العقود الأخيرة على اهتمام عديد من الباحثين في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماعية في العالم، وتفرع هذا النوع من الأبحاث في مجال الاقتصاد إلى عدة فروع منها الاقتصاد السياسي التطبيقي (الكمي).
اللافت للنظر هو الأبحاث الكمية في مجال الاقتصاد التي تناولت معطيات في عديد من الدول التي يجمع بينها وضع متشابه وقاسم مشترك، كالاحتلال أو الصراعات الداخلية والحروب، مثل: العراق، وأفغانستان، وفلسطين، وراوندا، وأُوغندا. فجزء كبير من الاقتصاديين حاول ربط تأثير العوامل الاقتصادية على ظواهر سياسية أو العكس، ومن ثم الخروج بنتائج للقارئ الكريم. فعلى سبيل المثال، يمكننا دراسة تأثير البطالة والحالة الاقتصادية على العنف في داخل مجتمع ما، مثلا، للربط ايجابيا بينهما لأن ارتفاع معدل البطالة قد يدفع بعض الأفراد الى الاحباط ويزيد من احتمال لجوئهم للعنف. لكن، الأمر ليس بهذه البساطة كما يبدو لأن بعض الباحثين لم يجدوا علاقة بين هذين المتغيرين. فتأثير البطالة من عدمه غالبا ما يتعلق بالسياق السياسي والاجتماعي للدولة أو المنطقة التي يتم دراستها. هذا فقط مثال واحد على التعقيدات التي تواجه الباحثين في مجال الاقتصاد السياسي أو حتى في غيره من الحقول المعرفية. عليه يعمد الباحثون الجادون على التأكد من عدد من الاشتراطات في التحليل التطبيقي، ومن أهمها:
أولا- أن تكون البيانات المستخدمة في التحليل صادقة (تعبر عن واقع الحال) وتعكس التأثير المتوقع. لأن أي خلل في هذا الشرط قد يحد من دقة النتائج المتوقعة. يواجعه الباحثون في كثير من الأحيان تحديات تتعلق في الحصول على بيانات دقيقة. وقد لا يفلحون في ذلك، مما يقد يجعلمهم يستخدمون بيانات "بالوكالة" (proxies) واليت تعكس جزءا معينا من خصائص المتغير المطلوب. فمثلا، لقياس مستوى العنف، يلجأ الباحثون الى قياسه من خلال عدد القتلى. وهذا فقط يعكس جانبا واحدا من أشكال العنف. وفي هذه الحالة، ان لم نجد تأثيرا للبطالة على عدد القتلى، هذا لا يعني بالضرورة أن هذه النتيجة تمتد لجميع أشكال العنف. وعادة ما تكون هذه البيانات على شكل سلاسل زمنية، مثلا تخص جمع بينات عن عنصر (مثلا عن بلد أو جغرافيا واحدة) خلال فترات زمنية متعددة. وقد تأخذ شكل البيانات المقطعية (cross section data) والتي تخص البيانات التي يتم جمعها عن عناصر مختلفة في فترة ومنية محددة (مثل جمع بيانات عن عدة بلدان في نف الفترة الزمنية)، وقد تجمع البيانات الشكلين معا.
ثانيا- النموذج الاقتصادي المستخدم: طور الاقتصاديون وعلماء الاحصاء نماذج احصائية/رياضية من أجل دراسة العلاقة بين المتغيرات المختلفة. المهم في الأمر، أن قرار الباحث باستخدام نموذج ما يجب ان يخضع للاشتراطات التي تتيح استخدامه. فبناء أي نموذج يعتمد على فرضيات محددة يجب على الباحث التأكد من تحققها. فمنها ما يتعلق بطبيعة البيانات المستخدمة، كمية أم نوعية أو هل البيانات الكمية ناتجة عن عملية عد أو قياس، ناهيك عن شكل البيانات (سلاسل ومنية أم مقطعية). بطبيعة الحال، ان استخدام النماذج الاحصائية دون اعتبار لهذه المتطلبات قد يؤدي الى الخروج بنتائج مغلوطة.
ثالثا: تحييد تأثيرات السياقات والمتغيرات المتشابكة.
لعل من اهم التحديات التي تواجه الباحثين ما يعرف بمسألة عزل العوامل. وهي التأكد من تأثير متغير ما على آخر غير محكوم بتأثير متغيرات أخرى لم يتم ضبطها. قد يؤدي اهمال هذه المسألة الى تشوه النتائج. وتقودني هذه المسألة الى الحديث عن شيوع نمط من الأبحاث كأنها تحولت إلى موضة في عالم الاقتصاد السياسي، تحاول ربط العوامل الاقتصادية بالسياسية والعكس. فمثلاً يدعي أحد الباحثين بأنه لا تأثير للتشوهات الاقتصادية في الضفة الغربية على مقاومة الاحتلال. وآخر يدعي في بحثه بأن مقاومة الاحتلال الاسرائيلي العنيفة من قبل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي أدى إلى ردة فعل عنيفة من قبل الاحتلال الاسرائيلي وليس العكس. ان دقة هذه النتائج وصحتها، يعتمد على عدة متطلبات أهمها، ان التأثيرات الأخرى المتشابكة مع مستوى العنف، مثل التغيرات السياسية أو الاجراءات الأمنية الاسرائيلية، قد تم عزل تأثيرها. والا لن نعلم يقينا ان كانت النتائج تعكس في هذا السياق تأثير العنف أم تأثير تلك التغيرات. ولعل من الآبحاث التي اشتهرت في مجال الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، تلك التي استخلصت أن هدم البيوت العقابي لعائلات المشتبه بتنفيذهم عمليات انتحارية قد شكل رادعا وقلل من وتيرتها خلال الانتفاضة الثانية. تم الاستعانة في نتائج هذا البحث من قبل المحكمة الاسرائيلية العليا في رفض الطعون المقدمة من قبل تلك العائلات ضد هدم منازلهم. مؤخرا، خلص بحث، لم ينشر بعد، أن الاستنتاج السابق ليس دقيقا (لا يوجد ربط بين هدم البيوت العقابي ووتيرة العمليات الانتحارية) كون منهجية التحليل التطبيقي لم تعزل التأثيرات المتشابكة عن تأثير هدم البيوت العقابي. وعليه، تكمن أهمية استخدام النهج العلمي الصحيح في مجال الاقتصاد السياسي التطبيقي في عدم الخروج بنتائج مضللة قد تكون لها تبعات قانونية وحقوقية.
فمن خلال مشاركتي في عديد من الأبحاث في مجال الاقتصاد الكمي، تناولَتْ موضوع المجتمع الفلسطيني ان وتأثير الاحتلال على هذا المجتمع، سواء على الصعيد الاجتماعي، أم الصحي أم الاقتصادي خلصت إلى نتيجة مفادها عدم أهلية بعض الأبحاث للاستناد إلى نتائجها في تقويم المشكلات. وفي أحد هذه الأبحاث التي شاركت فيها، وكان يهدف لدراسة مدى تأثير العنف الإسرائيلي والإجراءات ضد المجتمع الفلسطيني على الآراء السياسية، فقد توصلنا – نحن الباحثين - إلى نتائج مفادها بأن زيادة العنف ضد الشعب الفلسطيني أدت إلى زيادة الدعم السياسي للتيارات الإسلامية. وفي في البحث نفسه توصلنا إلى أن اتفاقية أُوسلو والانتفاضة الأُولى كان لها أبعاد على موقف الشعب الفلسطيني من مستجدات المرحلة، فالأطفال الفلسطينيون الذين عاشوا الانتفاضة الأُولى كانوا أكثر كراهية للاحتلال بعد خمسة عشر عاماً من تجربتها. والأطفال الفلسطينيون الذين عاشوا في فترة أُوسلو كانوا أكثر تقبلاً للمفاوضات واستمرارها.
في الخلاصة: أنا لا أُشكك في مصداقية أي باحث من حيث المبدأ، ولكنني أُنوّه وبشدة إلى أنه لا يمكن أن تُبنَى استراتيجيات عمل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي على نتائج كهذه، فالواضح أن هذه النتائج مرتبطة بنوعية البيانات المستخدمة ونوعية النموذج الاقتصادي ما يستوجب قراءتها بحذر شديد وعدم الاتكاء عليها في بناء سياسات مستقبلية متسرعة.
[email protected]
أضف تعليق