شهد الشهر الأول من العام الجاري، كانون الثاني 2023، الذي يوشك على لفظ أنفاسه لدى كتابة هذه الكلمات، سلسلة اعتداءات عنصرية على أماكن مقدسة ودور عبادة وأحياء وأشخاص وحتى قبور الموتى من قبل مجموعات يمينية يهودية نمت وترعرعت على الكراهية والعنصرية، في مدينة القدس.
أول تلك الاعتداءات حصل في المقبرة البروتستانتية في جبل صهيون، حيث قام شابان متدينان، كما دل توثيق الكاميرات، بتحطيم شواهد القبور والرموز الدينية وخاصة الصليب، والقائها أرضا بشكل مهين وحاقد، وتلاها اعتداء "قطعان المستوطنين" على مقر بطريركية الأرمن الأرثوذكس في القدس، بكتابة شعارات عنصرية بغيضة على جدران مبنى البطريركية والتي تدعو بالموت للعرب والمسيحيين، وبعدها جرى اعتداء جسدي على عدد من الشبان أبناء حارة الأرمن، الذين تصدوا بأيديهم وأجسادهم لاعتداء العنصريين الموتورين، وآخر تلك الاعتداءات طال ثانية مبنى البطريركية الأرمنية ومحاولة اعتلاء أسوارها بهدف إزالة علمها.
يلاحظ التشابه بين تلك الاعتداءات وهي أنها وقعت جميعها في مدينة القدس العربية وما تمثله هذه المدينة العريقة من رمزية وعنى لدى أبناء الكنيسة وأبناء الشعب الفلسطيني، ولدى جميع الديانات السماوية. والأمر الثاني أن تلك الاعتداءات طالت بغالبيتها الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية بشرا وحجرا، وبالتالي رمزا وحضورا، والأمر الثالث أنها جاءت بعد أسابيع قليلة من تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة – القديمة، عنصرية التوجهات، يمينية التركيبة، فاشية النوايا. تلك المؤشرات تؤدي إلى الخيوط التي تحرك المعتدين الصغار، تلاميذ الفاشيين الكبار والذين يجدون في حكومتهم الجديدة الحضن الدافيء لهم والذي يضمن لهم مواصلة الاعتداءات دون رادع أو عقاب.
لماذا وقعت تلك الاعتداءات في القدس؟ بداية تجب الإشارة إلى أن تلك الاعتداءات ليست جديدة وليست الأولى من نوعها، اذ طالما شهدت القدس نزاعات وخلافات واقتتال عليها وحولها، وسبق للبطريرك ميشيل صباح أن أشار إلى ذلك في كتابه "خواطر يومية من القدس"، مؤكدا على قدسية وفرادة القدس التي تحتضن أبناء الديانات السماوية وتتميز بقداستها وبحق كل انسان مؤمن بممارسة صلاته في دور عبادته فيها، فهي مدينة الله والانسان. وهناك حقيقة أخرى بأن القدس وخاصة نصفها الشرقي يخضع للسلطة الإسرائيلية منذ حرب/ عدوان حزيران 1967 واحتلالها من قبل القوات الإسرائيلية، وبعد أيام من احتلالها تم التصويت في الكنيست على الحاق القدس الشرقية بالغربية و"توحيد" المدينة بحيث باتت قانونيا تخضع للنظام الإسرائيلي. ومن هنا فان مسؤولية سلامة وأمان المواطنين في القدس تقع على عاتق الحكومة الإسرائيلية أيا كانت، ومن واجبها منع وإيقاف مثل هذه الاعتداءات على الأماكن المقدسة وعلى أهالي المدينة المسالمين في بيوتهم وأحيائهم. من ناحية أخرى على رؤساء الكنائس عدم الاكتفاء بإصدار البيانات المعتادة وبصيغة "ناعمة"، فان تكرار وتصاعد وتيرة تلك الاعتداءات تحتم على رؤساء الكنائس أن يرفعوا صوتهم أكثر وبحدة أكبر، أوليس هم الذين يرددون على مسامعنا قول السيد المسيح، له المجد: "اقرعوا يفتح لكم، اطلبوا تجدوا، اسألوا تعطَوا"، فما بالهم يلتزمون الصّمت ولا يخرجون للطلب والسؤال بصوت عال، كي يسمعهم المسؤولون ويستجيبوا لمطالبهم؟
وهذا الأمر لا يتناقض مع أكده غبطة البطريرك ميشيل صباح في كتابه المذكور "يجب أن تبقى القدس مدينة لله ولأهلها وللإنسانية، مدينة يلتقي فيها الناس أخوة، وفيها يعبدون الله بالروح والحق". (ج 1- ص 21).
[email protected]
أضف تعليق