في المؤتمر الصحفي الذي عرض فيه خطته الاقتصادية في 11 كانون الثاني (يناير)، أعلن بنيامين نتنياهو بثقة: الديمقراطية وسلطة القانون تتعلقان بالتوازن بين السلطات الثلاث. هذا ما قاله جون لوك ومونتسكي، الفيلسوفان الأكبر للديمقراطية الحديثة. لو أن نتنياهو كلف نفسه عناء قراءة المصادر لكان عرف أنه بالإمكان تمييز هذين المفكرين من القرنين السابع عشر والثامن عشر بعدد غير قليل من التعريفات السياسية. ولكن بالتأكيد لا يمكن القول إنهما كانا ديمقراطيين.
لو أن رئيس الحكومة اطلع على نصوصهما لكان وجد بأنهما لم يفكرا للحظة بأن جمهور الرعايا البسطاء الذين لا يملكون أي شيء، الأغلبية الحاسمة في المجتمعات في تلك الفترة، كان لهم الحق في تحديد من سيكون سيدهم. كان يجب انتظار جان جاك روسو وبعده راديكاليين في الثورة الفرنسية من أجل أن يبدأ هذا المبدأ الديمقراطي بالعمل، وضعضعة وهز التاريخ الحديث.
لم أكن لأتوقف عند جهل نتنياهو التاريخي لو أن قضية الديمقراطية كانت واضحة لكل من يحملون اسمها علنا ويقسمون مرارا وتكرارا على رؤوس الأشهاد بأنهم ديمقراطيون مخلصون. أولا، سواء لوك أو مونتسكيو كلاهما حظي في الأدبيات البحثية بلقب “الليبراليين” وبحق. كلاهما، بهذا القدر أو ذاك، قدما تعبيرا نظريا أصيلا لصعود نخب اقتصادية-اجتماعية جديدة، التي عملت وحاربت من أجل تقليص المكانة المطلقة للملكية وإقصاء الهيمنة الكاملة للنبلاء. في الواقع، يمكن أن نرى في الثورة المباركة لـ1688 في إنجلترا بداية ظهور الليبرالية السياسية (وليس الديمقراطية) بالفعل -هذا تجديد في التاريخ. على هذا يجب أن نضيف بأنه في 1993 عندما وصل للمرة الأولى ديمقراطيون الى مراكز السلطة الفرنسية -أي الذين طالبوا بتطبيق مبدأ “رجل واحد، صوت واحد” (حتى ذلك الوقت لم يكن “امرأة واحدة، صوت واحد”) – هم لم يكونوا ليبراليين تماما في مزاجهم. فصل السلطات، تقييد صلاحيات السيد أو مبدأ التعددية السياسية كانت بعيدة عن قلوبهم. فعليا مرت مائة سنة أخرى الى أن تبلورت في الدول الغربية الصناعية، والتي أنظمتها تخلط الليبرالية مع الديمقراطية (بالطبع للرجال فقط)، ضمن أمور أخرى في أعقاب ضغطها وزيادة الأصوات الانتخابية لحركات طبقة العمال الجديدة.
في القرن العشرين، مرحلة بعد أخرى، تقريبا جميع النخب السياسية اعتبرت نفسها ديمقراطية، حيث إنه في نهاية المطاف كل النخب موجودة ولكن فقط لخدمة من تمثلهم بإخلاص. البلاشفة اعتبروا أنفسهم ديمقراطيين أصيلين لأنهم طبقوا مبدأ حق الانتخابات العامة والمباشرة للسوفييت. بنيتو موسوليني اعتبر الفاشية نظاما ديمقراطيا أكثر من الأنظمة البرلمانية لأنه أعطى تعبيرا أصيلا ومباشرا أكثر للجمهور في الشوارع. أيضا دول أوروبا الشرقية الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية اعتبرت كما هو معروف “ديمقراطيات شعبية”. الثورات في الصين وفيتنام وفي معظم الدول في العالم ما بعد الكولونيالي اعتبرت نفسها ديمقراطيات أصيلة. كوريا الشمالية تسمي نفسها حتى الآن “جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية” (في الواقع تنعقد فيها جمعية عمومية منتخبة من الشعب، التي تعمل فيها ثلاثة أحزاب توائم). أيضا في افريقيا تعتبر زائير، التي كانت في السابق “جمهورية الكونغو الديمقراطية” التي يجري فيها نوع من الانتخابات الحرة، رغم أنها تؤجل مرة تلو الأخرى. مبادئ ديمقراطية مثل فصل السلطات وتقييد سلطة الحاكم والتعددية الحزبية الأصيلة وحرية التعبير وحقوق المواطن الأساسية -كل هذا غريب تماما في هذه الفضاءات وفي بعض الحالات هذا تقريبا غير مفهوم.
هل صحيح أن نرى في إسرائيل ديمقراطية ليبرالية؟ في وثيقة الاستقلال من العام 1948 اعتبرت الدولة “يهودية”،
هل صحيح أن نرى في إسرائيل ديمقراطية ليبرالية؟ في وثيقة الاستقلال من العام 1948 اعتبرت الدولة “يهودية”، رغم أن مفهوم “شعب عبري” يظهر فيها وهي تسمى إسرائيل. ولأن تعريف “يهودية”، الذي ليس مثل “عبرية” أو “إسرائيلية”، لا يعد تعريفا ثقافيا شاملا مفتوحا ومرنا يمكن أن يشمل في داخله أيضا مواطنين لا يعتبرون يهودا، بل هو تحديد انتماء اثني-ديني متصلب وإقصائي، التمييز مبني في تعريف إسرائيل الذاتي ومصطلح “ديمقراطية يهودية” هو تناقض واضح. الولايات المتحدة لم تكن تعتبر ديمقراطية لو أنها رأت نفسها دولة لأبناء الأصل البروتستانتي. لم نكن لنعتبر بريطانيا دولة ديمقراطية لو أنها تجاهلت الويلزيين والاسكتلنديين وقالت إنها تنتمي للشعب الإنجليزي فقط. نعم، لم نكن لنعتبر فرنسا جمهورية لو أنها اعتبرت نفسها دولة الشعب ذي الأصل الغالي-كاثوليكي. ديمقراطية من مجرد التعريف تعني أن تكون دولة كل مواطنيها، لا تأخذ في الاعتبار مبدأ تعدد الأصل الاثني، مهما كان متخيلا بهذا القدر أو ذاك، وبالطبع ترى هدفها النهائي هو أن تخدم بمساواة كاملة جميع الخاضعين لها، من أجل أن يتماهوا معها ويستوعبوا عن طيب خاطر، وليس فقط بالإكراه، قوانينها. هذه هي الطريقة التي يتم بها تحقيق الحكم غير المتضارب في الدول الديمقراطية الليبرالية.
نظرا لأن إسرائيل أعلنت كـ”ديمقراطية يهودية” فيجب ألا نستغرب من أنه بعد أشهر قليلة على إعلان الاستقلال فرض على مواطنيها العرب حكما عسكريا، الأمر الذي قيد بصورة شديدة حرية حركتهم وحقوق مواطنتهم. هذا الحكم المناوئ للديمقراطية والمناوئ لليبرالية استمر حتى 1966، أي طوال فترة وجود دافيد بن غوريون في رئاسة مباي. أيضا رئيس الحكومة الأول هو الذي قاد، الى جانب القوائم الدينية وخلافا لموقفه القاطع من خصمه مناحيم بيغن، المعارضة المتشددة لوضع دستور في إسرائيل. مؤسس الدولة لم يأخذ في الاعتبار بشكل خاص الليبرالية السياسية، ولو كان يستطيع، فإنه كان قد أخرج الى خارج القانون حركة حيروت والحزب الشيوعي الإسرائيلي “ماكي”، لكنه فهم بشكل مبكر جدا، ليس مثل موشيه سنيه ومئير يعاري مثلا، أنه رغم أن جوزيف ستالين هو الذي أيد أكثر بكثير من الرئيس الأميركي هاري ترومان إقامة دولة يهودية وتسليحها، فإن مستقبل الدولة سيكون متعلقا بدرجة كبيرة جدا بالنظرة المستقبلية لليهودية الليبرالية الأميركية تجاهها. من هنا، ضمن أمور أخرى، جاء اختيار تعريفها “يهودية” وليس “عبرية” أو “إسرائيلية”. ومن هنا أيضا، جاءت المؤسسة الديمقراطية المهزوزة لدولة لم تكن وبحق لجميع مواطنيها خلال 75 سنة تقريبا، بل ليهودييها ويهود العالم (الذين يرفضون بعناد غريب الهجرة اليها والعيش فيها).
لكن حتى لو لم تكن في إسرائيل ديمقراطية حقيقية في أي يوم من الأيام، وقانون القومية من العام 2018 عاد وأكد ذلك بصورة صريحة، ورغم أن الدين لم يتم فصله في أي يوم فيها عن الدولة، واليهودي لا يمكنه أن يتزوج فيها من غير اليهودية، رغم كل ذلك يمكن اعتبارها بعد ترددات كثيرة “دولة اثنية ليبرالية”. هي حقا بدأت، بعد فترة معينة من ذهاب بن غوريون، في تطوير وترسيخ ليبرالية حذرة، لكنها ثابتة. فإنه منذ نهاية السبعينيات ورغم احتلال المناطق وتشكل فضاء سيطرة غير ديمقراطي جديد، لا سيما في التسعينيات، بالأساس بسبب تبدل الحكم، تقدمت مبادئ الليبرالية مثل فصل السلطات، والتعددية السياسية (في الستينيات كانوا يحظرون على حزب الأرض التنافس في الانتخابات) وما شابه. السلطة القضائية تعززت قبيل نهاية القرن السابق، وعدد من قوانين الأساس رسخت بصورة أشد حقوق المواطن الأساسية، وهذه شملت بدرجة معينة أيضا الجمهور العربي الإسرائيلي.
صعود يمين ديني قومي -متطرف ومستبد الى الحكم في نهاية 2022- يمين غارق في تحالف مع نخبة سياسية
صعود يمين ديني قومي -متطرف ومستبد الى الحكم في نهاية 2022- يمين غارق في تحالف مع نخبة سياسية عدد غير قليل من أعضائه مهددين بسبب مخالفة رشوة وتحايل -جر خلفه فورا عددا كبيرا من الاقتراحات والإجراءات غير الليبرالية بشكل واضح. الوسط واليسار في إسرائيل لا يدققان عندما يدعيان بأن الحكومة الجديدة لنتنياهو تنوي إلغاء أو تقليص “الديمقراطية اليهودية”.
جميعهم، يسار ويمين على حد سواء، ما يزالون يتمسكون بها بحزم أعمى ومريح. ولكن إذا اليمين البيغني أسهم بقدر لا بأس به في تعزيز الليبرالية الإسرائيلية، فإن تحالف اليمين البيبي بصورة صريحة ينوي بخطواته الأولى تقليص الاستقلالية النسبية لمنظومة القضاء في إسرائيل. الحكومة الجديدة بدأت عملها بالانقضاض الشامل على فصل السلطات، وهو المبدأ الليبرالي المهم الذي كما هو معروف تم تمجيده من قبل مونتسكيو عن طريق إخضاع مطلق للمحكمة العليا لنزوات منظومة القوة السياسية المنتخبة. في دولة لا يوجد فيها دستور مثل إسرائيل فإن الحديث يدور عن مدخل للتدهور، الذي من شأنه أن يحولها الى ما أعده فيكتور اوربان لهنغاريا قبل عشر سنوات وما جئير بوليسنارو بدأ في تطبيقه في البرازيل ولم يكن له الوقت الكافي لإكماله.
مشكوك فيه إذا كان النظام الشعبوي الجديد سيكتفي بذلك. بعد تقليص الليبرالية القانونية كما يبدو سيأتي أيضا تصلب شديد أمام الجمهور العربي في إسرائيل وأيضا التشديد في قمع السكان في المناطق. عدد من وزراء الحكومة الجديدة أيضا يعيشون خارج حدود دولة إسرائيل، سواء في الخليل أو في كدوميم أو في ريمونيم. بالطبع ليس هذا سببا كافيا لضم المناطق الى إسرائيل، حيث إن العالم من شأنه، أن ينذهل بسبب الابرتهايد الواضح، لكن بالتأكيد توجد هنا فرصة جيدة لضم إسرائيل اليها، وبذلك تتقلص أكثر الليبرالية الإسرائيلية الآخذة في التضاؤل.
[email protected]
أضف تعليق