احتفلت حماس مبكراً هذا العام بذكرى انطلاقتها الخامسة والثلاثين، وظهر قائدها في قطاع غزة، يحيى السنوار، بعد اختفاء مدة عامين تقريبا، وفيما يبدو أرادت حماس أن تستبق «موسم» انطلاقات الفصائل الرئيسة، باستعراض قوة يحمل رسائل عدة، جلها موجهة للخارج، بما يؤكد «هوس» الحركة بأن تجد نفسها يوما ما في الواجهة الفلسطينية، الأمر الذي ما غاب عن ذهنها منذ أن وجدت نفسها في خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى، العام 1987، لتعلن ولادتها، مع أن الاحتلال الإسرائيلي، قد وقع قبل ذلك بعشرين عاما، أي العام 1967، بل إن إقامة الكيان الإسرائيلي قد جرت قبل ذلك الوقت بزمن طويل، أي منذ العام 1948، وحماس كتنظيم إخواني، أو حتى كخلايا وفكر إخواني موجودون في المنطقة منذ نحو قرن من الزمان.
ولأن مفهوم حماس للتحرر مختلف تماما عن المفهوم الوطني، وبسبب من جملة من العوامل الدولية والإقليمية، جرها التيار الشعبي العارم في الانتفاضة الأولى، تماما كما حدث مع إخوان مصر في ثورة يناير 2011، حين انضم إخوان مصر للحراك الشعبي ثالث يوم من انطلاقه، المهم أن حماس لم تنضو ضمن القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وظلت تعمل وحدها، فهي حركة لا تؤمن قطعا وبشكل مطلق بالشراكة السياسية مع أحد، ولا حتى مع من يشاركها العقيدة الدينية - السياسية، مثل الجهاد وغيرها، وهي بالكاد تعقد حاليا تحالفا مع الجهاد، مضمونه أن تترك لها الجهاد الحكم في غزة، ولا تزاحمها عليه، مقابل أن تغمض هي عينيها عن إقامة سرايا الجهاد في قطاع غزة، لكن دون تدخل في شأن إدارتها للحكم الداخلي، مع الاتفاق بين الحركتين، على أن تشكل قوتهما العسكرية في غزة قوة ردع في أحسن الأحوال، فيما يبقى قرار الحرب والسلم بيد حماس، التي بدورها أقنعت الجهاد بممارسة فعل المقاومة في الضفة فقط.
أما لماذا ظهر السنوار ومعه محمد الضيف الذي يوصف بقائد هيئة أركان القسام، أو حتى قائد أركان جيش غزة، المكون من القسام وأخواتها من المجموعات المسلحة، في هذا التوقيت بالذات، مع تبكير موعد إقامة حفل حماس، كما أسلفنا، فهذا يعود بتقديرنا إلى رسائل تقوم بتوجيهها حماس للجانب الإسرائيلي على نحو خاص، وخلال العامين الماضيين لم تظهر حماس ولا سنوارها في الصورة، ذلك أنها رأت في الحكومة السابقة كجملة حكم اعتراضية، قطعت خط حكم الليكود، شريكها وصنوها على الجانب الآخر، حيث ترافقا معا في قيادة جانبي خط النار، طوال عقدين مضيا، أي أن ظهور حماس مبكرا، بواجهة مسرحها السياسي، أي السنوار والضيف، يراد به القول لحكومة نتنياهو السادسة، إنها على الطرف الآخر جاهزة للحوار المعتاد، والذي أكده السنوار على أي حال، حيث قال في خطابه، إن الحوار مع إسرائيل لم ينقطع، طبعا عبر الوسيط الدولي.
لكن الغريب أن خطاب السنوار والذي أكدت مضمونه كلمة الضيف المسجلة، تمحور حول بند الأسرى، وكأن السنوار شخصيا غير مسكون إلا بهذا الملف، فهو ظهر قبل عامين أيام حكومة نتنياهو السابقة، في عام تفشي الكورونا، ليطلق مبادرة لفتح الباب أمام عملية تبادل للأسرى، لكن عدم استجابة ولا حتى اهتمام إسرائيل بما أعلنه الرجل، فرض عليه التراجع، بل الانكفاء طوال فترة حكم الحكومة الإسرائيلية البديلة، رغم أنها أطلقت عملية «كاسر الأمواج» في الضفة الغربية منذ آخر شهر آذار الفائت، وما تخلل ذلك الوقت من مقاومة شعبية ومسلحة في مدن جنين ونابلس والخليل، لم تحرك حماس إزاءها ساكنا، فهي ما زالت لا تفكر في إنهاء الانقسام.
وبالطبع قضية الأسرى أمر في غاية الأهمية، لكنه كما سبق وقلنا ألف مرة، إنه ملف وطني أولا، مرتبط بالاحتلال ثانيا، ولا حل نهائيا له، إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي نهائيا عن الأرض الفلسطينية، ولكل ذلك يبقى ملف الأسرى والمعتقلين خاضعا لسياسة الباب الدوار الاحتلالية، وإسرائيل فعلا سبق لها أن أعادت اعتقال من أطلقت سراحهم من قبل، ولا تلتزم بأي اتفاقيات سبق لها ووقعت عليها، لكن حماس تسعى إلى الإبقاء على حضورها، وهي تتصرف كمسؤول جهوي، تماما كما فعل منصور عباس ضمن حكومة إسرائيل المنتهية ولايتها، حيث تقدم باعتبار أن برنامجه خدمي خاص بالنقب، ولا شأن له بالبرنامج الوطني لا لفلسطين، ولا لفلسطينيي 48، وهكذا تتصرف حماس باعتبارها مسؤول قطاع غزة، وهي مهتمة بملف أسراها، للإبقاء على بوابة الحوار مع إسرائيل مفتوحة، وإن كان عبر وسيط، فيما تقوم بملاحقة السلطة الفلسطينية في الضفة، فيما يخص التنسيق الأمني.
هنا لابد من الإشارة، إلى أن مبررات حماس للإصرار على عدم إنهاء الانقسام، لم تعد موجودة، فالمفاوضات التي كانت حجتها من قبل، قد أغلق بابها منذ العام 2014، والتنسيق الأمني لم يعد موجودا باقتحامات إسرائيل لمدن جنين ونابلس، وواضح أن باب التنسيق الأمني سيغلق تماما، بعد تسلم الصهيونية الدينية لملف احتلال إسرائيل للقدس والضفة الغربية، كما أن إنهاء الانقسام يعني اتفاق حماس وفتح على صيغة عمل جبهوي، أقله في الضفة الغربية لمقاومة الاحتلال، لكن كما أسلفنا حماس ومنذ العام 1987، انخرطت في العمل الوطني، شرط أن تبقى وحدها، وشرط أن تكون هي القائد والرئيس، وهي لا تقبل أن تقاوم الاحتلال، تحت قيادة أحد غيرها!
يبقى أن نقول، هل يعني مجرد أن يظهر السنوار والضيف في حفل انطلاقة حماس في غزة، بأن حكومة التطرف الإسرائيلية ستستجيب لمحاولة الحركة إطلاق الحوار بينهما حول ملف الأسرى، وكما يقول المثل «العيار الذي لا يصيب يثير الصخب»، قد يجد نتنياهو، عرّاب المراهنة على الانقسام، في ذلك رداً على استمرار إغلاقه أبواب الاتصال مع الجانب الفلسطيني، وذلك بأن يقتنع مثلا بأهمية تعزيز وجود حماس في الضفة، بعد أن ينغلق الباب تماما أمام التنسيق الأمني مع السلطة، خاصة مع تصاعد المواجهة المتوقع، وما سيحدثه من ضجيج إقليمي ودولي، وقد ينشأ في هذا الاتجاه ضغط داخلي أيضا، فسرعان ما تحرك ذوو الجندي الإسرائيلي القتيل هدار غولدين، بعد إعلان حماس عن رقم بندقيته، وإسرائيل متأكدة من أنه ليس لدى حماس سوى رفات الجنديين، والمدنيين الآخرين اللذين دخلا غزة بعد حرب العام 2014.
مجمل القول إن حماس لن تحصد سوى الهواء، كما سبق لأخواتها في الجوار العربي، وستبقى معزولة في غزة، ما دامت تصر على عدم إنهاء الانقسام، فيما ستظل إسرائيل ترعى الانقسام، ما دام نتنياهو في الحكم، على أقل تقدير، وحماس تنتظر أن تنجح عرين الأسود في الضفة بإحداث متغير في معادلة الاحتلال - المقاومة، حينها ستتقدم نحو الحكم على الجانب الفلسطيني، أيا يكن مستواه ومضمونه حتى لو كان حكما ذاتيا، أو مجالس محلية، فهي فضلت طوال خمسة عشر عاما حكما معزولا ومحاصرا في غزة، على الشراكة الوطنية في قيادة حرب الاستقلال على طريق إقامة دولة فلسطين.
[email protected]
أضف تعليق