لماذا كان الرئيس الأسد مُحِقًّا في مُقاومة الضّغوط الروسيّة لعقد لقاء قمّة مع أردوغان؟ وهل ستُؤثّر هذه “المُقاومة” على العلاقات بين دِمشق وموسكو؟ وما هي إيجابيّاتها وسلبيّاتها على سورية؟
عبد الباري عطوان
لم يُفاجِئنا تقرير وكالة “رويترز” العالميّة الذي قالت فيه إنّ الرئيس السوري بشار الأسد “يُقاوم” ضُغوطًا روسيّةً “حتّى الآن” لعقد لقاء قمّة يجمعه بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان في موسكو في المُستقبل المنظور، لأنّه لا يُريد منْح الرئيس أردوغان نصرًا مجّانيًّا، قبل انتِخابات الرّئاسة بعد ستّة أشهر.
الرئيس السوري مُحِقٌّ في هذا الرّفض ومُقاومة الضّغوط الروسيّة بالتّالي، فالخِلافُ مع الرئيس أردوغان ليس خِلافًا ثانويًّا، أو لقَصفٍ إعلاميٍّ، وإنّما أكبر من ذلك بكثير وأعمق، ولا يُمكن تسويته “بتبويس اللّحى” وعلى طريقةِ “عفا الله عمّا سلف”.
الرئيس أردوغان هو الذي كان يملك قرار إشعال فتيل الحرب على سورية طِوال السّنوات العشر الماضية في إطار مشروع أمريكي إسرائيلي لتدميرها، ولكن هذا لا يعني، بل لا يجب، امتِلاكه قرار وقفها أيضًا في الوقت الذي يُناسبه وأهدافه وطُموحاته ومصالحه دون التّجاوب مع جميع الشّروط السوريّة، وأبرزها الانسِحاب الكامِل من الأراضي السوريّة، ودفع حُلفائه أكثر من نِصف ترليون دولار على الأقل لإعادة إعمارها، وتقديم اعتِذارٍ صريحٍ وواضحٍ للدّولة والشّعب السوري.
***
كم كان الرئيس أردوغان مُخطئًا عندما اعتقد أن الرئيس السوري “سَيُهرول” إلى موسكو للمُشاركة في لقاء القمّة المُقتَرح تجاوبًا مع تصريحاته التي كرّرها أكثر من مرّةٍ حول رغبته بلقائه، لأنّ الرئيس السوري وبعد صُمود أكثر من 11 عامًا في وجْه عُدوان تشنّه أكثر من 65 دولة برئاسة الولايات المتحدة، مدعومةً بأكثر من ترليونيّ دولار من خزائن دول عربيّة نفطيّة، بات في موضع قوّة، وخرج وأخرج الشّعب العربي السوري من عُنُق الزّجاجة رُغم التّكاليف الباهظة ماديًّا وبشريًّا.
عندما كان الرئيس أردوغان يعتقد أنه في موضع قُوّة، وأن إسقاط النظام وتغييره مسألة بضعة أسابيع، أو أشهر معدودة، رفض كُل الوِساطات الروسيّة، وتعاطى بفَوقيّةٍ واستِعلاءٍ مع القِيادة السوريّة، وتوعّد بالصّلاة، في المسجد الأموي في قلب دِمشق مُتَوسِّطًا الحُكّام الجُدُد، والآن، وبعد أن انقلب السِّحر على السَّاحر، ووصلت التّفجيرات الإرهابيّة إلى ميدان التقسيم في قلب مدينة إسطنبول، وباتت مُعظم استِطلاعات الرّأي تُؤكّد تراجعه، وحزبه في أيّ انتِخاباتٍ رئاسيّةٍ وتشريعيّةٍ قادمة، أن قضيّة اللّاجئين السّوريين (5.3 مليون) والغزو التركي لسورية ستكونان البند الأكثر سُخونةً فيها (أيّ الانتِخابات)، بدأ الرئيس أردوغان يُغازِل دِمشق، ويُهادن موسكو بحثًا عن طَوقِ النّجاة.
الرّفض السّوري لهذا الغزل الأردوغاني مُبَرّرٌ لأنّ القِيادة السوريّة، ومُعظم القِيادات العربيّة، وإن لم يكن كلّها لم تعد تثق بالرئيس التركي الذي تُحيط به الأزمات هذه الأيّام من الجِهات الأربع، لأنّ سجلّه في السّنوات العشر الماضية مَليءٌ بالتّقلّبات ونكْث الوعود، وطعن الأصدقاء قبل الأعداء في الظّهر، ألم يفعل ذلك مع القِيادة السوريّة التي فتحت له أبواب بلادها ونوافذها، وتوّجته أبًا حنونًا؟ ألم يتخلّى عن حركة “الإخوان المسلمين” المِصريّة، ويُغلِق، أو يلجم مُعظم منابرها الإعلاميّة، والتلفزيونيّة كعربون مُقدّم لإعادة العلاقات مع الحُكومة المِصريّة، ألم يُجَمّد المُعارضة السوريّة السياسيّة وأنشطتها في تركيا، ألم يتخلّى عن شِعار “المُهاجرون والأنصار” ويبدأ في ترحيل اللّاجئين السّوريين بالقُوّة من المُدُن التركيّة والحدّ من حركتهم في أفضلِ الأحوال، وإطلاق النّار بهدف القتل على كُل لاجئ سوري جديد يبحث عن مَلاذٍ آمِنٍ في تركيا؟ ألم يُعِد العلاقة مع دولة الاحتِلال، والأمثلة كثيرة.
القمّة الثنائيّة بين الرئيسين السوري والتركي يجب أن تُعقَد ولكن بعد اكتِمال انسِحاب جميع القوّات التركيّة من الأراضي السوريّة وليس قبلها، وإنشاء صندوق إقليمي دولي لتمويل مشاريع إعادة إعمار سورية، وتنفيذ فوري لجميع قرارات قمّة سوتشي التي نصّت على إنهاء وجود الجماعات المُسلّحة المُصنّفة إرهابيًّا في الشّمال الغربي السوري، عربيّةً كانت أو كُرديّةً، أو تركمانيّةً، وإحياء مُعاهدة أضنة التي تحمي حُدود البلدين.
المُعارضة التركيّة التي باتت مُوحَّدةً تحت مِظلّة تحالف سُداسي ضدّ حزب العدالة والتنمية تتبنّى جميع هذه المطالب السّابقة دُونَ شُروط، ومُستعدّة، إذا وصلت إلى سُدّة الحُكم لتنفيذها، وإعادة العلاقات مع دِمشق كاملةً وإعادة جميع اللّاجئين إلى سورية وضمان سلامتهم، فلماذا تُقدّم سورية التّنازلات للرئيس أردوغان وحزبه، وبِما يُؤدّي إلى بقائه في السّلطة لسِتٍّ أو سبعِ سنوات قادمة، اعتمادًا على وعودٍ “مُبهمة” ربّما لن يكون لها أيّ حَظٍّ من التّنفيذ إذا فاز أردوغان في الانتِخابات واستِعادة قُوّته ونُفوذه؟
***
نُدرِك جيّدًا أن للرئيس بوتين كلمةً مسموعةً ومُقدّرة لدى نظيره السوري، مثلما نُدرك أيضًا أن الرئيس بوتين الذي يخوض حربًا وجوديّة في أوكرانيا يحتاج إلى “الحليف” التركي، وتحييده وتقليص أخطاره إذا لم ينجح في كسبه إلى جانبه، وتجنّب أيّ صِدام عسكري كُردي تُركي في هذا التّوقيت، ولكن نُدرك أيضًا أن الحِفاظ على هيبته وبلاده، والظّهور أمام العالم بالحِفاظ على الحُلفاء التّاريخيين وحِمايتهم، والانتِصار لمطالبهم وحُقوقهم العادلة، وعلى رأسهم سورية وإيران الذين وقفوا في خندقه دُونَ تردّد، يجب أن يكون كُل هذا على قمّة أولويّات الرئيس بوتين واهتِماماته، ويتعلّم بالتّالي من السّياسات الأمريكيّة الفاشلة في هذا المِضمار.
خِتامًا نقول إنّنا كُنّا، وما زِلنا، مع التّقارب السوري التركي، وفتح صفحة جديدة بيضاء، ناصعة، ونُؤمن بالنظريّة التي تقول، لا عداءات دائمة، ولا أحقاد أبديّة بين الدّول والشّعوب، ولكن على أساس قاعدة قويّة لمُصالحة، فمن أخطأ يجب أن يعتذر، ومن دمّر يجب أن يُعيد إعمار ما دمّره، ومن احتلّ أن ينسحب، أمّا تبويس اللّحى لم يَعُد مقبولًا في القرن الواحِد والعِشرين، وفي المسألة السوريّة تحديدًا.
[email protected]
أضف تعليق