في طريقه إلى مدينة بالي باندونيسيا عرج الرئيس الأميركي على عاصمة كمبوديا "بنوم بنه" حيث شارك في قمة رابطة أمم جنوب شرقي آسيا، المعروفة اختصارا بـ"آسيان"، وقبل أن يصل بالي، أعلن بأنه سيلتقي الرئيس الصيني شي جي بينغ، ليضع أمامه خطوطا حمرا، تحدد العلاقة ما بين البلدين، الصين والولايات المتحدة.
هذا ما يفكر فيه وما يسعى إليه الرئيس الأميركي، الذي يشارك في قمة العشرين باندونيسيا، بعد أن اطمأن إلى أنه لن يواجه الأسوأ خلال العامين القادمين المتبقين على ولايته الرئاسية، بل حتى بما لا يقطع الطريق على احتمال ترشحه مجددا، أمام خصمه الأزلي، كما هو محتمل أيضا، دونالد ترامب، أما الرئيس الصيني فهو يشارك بدوره في قمة اقتصاد العالم، وهو في أوج قوته، بعد إعادة انتخابه رئيسا للصين، الدولة التي يعد اقتصادها المنافس الرئيسي للاقتصاد الأميركي في العالم.
نقول، إن الرئيس الأميركي يفكر في التوصل لاتفاق مع الرئيس الصيني يضع حدا للتوتر القائم بينهما، ليس فقط على خلفية موقف الصين المستقل عن الإرادة الأميركية، فيما يخص الملف الروسي/الأوكراني وحسب، ولكن على خلفية التوتر المتزايد في شرق آسيا، بين الكوريتين من جهة، وبين الصين نفسها وكل من تايوان واليابان من جهة ثانية، هذا التوتر الذي صبت على ناره زيتا نانسي بيلوسي رفيقة جو بايدن في الحزب الديمقراطي قبل أكثر من شهر بزيارتها لتايبه عاصمة تايوان.
أولا وقبل كل شيء، ما يجعلنا أن نشكك في نجاح الرئيس الأميركي بتحقيق هدفه، في لقائه الرئيس الصيني، هو اللهجة التي يتحدث بها بايدن، والذي هو غير ترامب مثلا، نقصد بأنه يزن كلامه جيدا، ولا يلقي به جزافا، رغم ذلك فإن لهجته لم تخل من ترفع ما زال الأميركيون يتصفون به، وكأنهم ما زالوا في عقد تسعينيات القرن الماضي، يحكمون العالم منفردين باستبداد وعنجهية، ثم ثانيا خلو جعبة بايدن، مما يمكنه أن يغري الصين، كأن تقدم لها تايوان كبش فداء مثلا، على طبق من ذهب، وعلى الأغلب ليس لدى بايدن سوى التأكيد على موقف بلاده من نظرية "الصين واحدة"، والتي لم يحل التشدق الأميركي بها، دون أن تقدم واشنطن على ما تسبب في انزعاج الصين، من إشارات تعزز ما تراه الصين مشجعا على استقلال تايوان.
الأهم هو أن الصين ليست بما يظنه بايدن فيها من غباء، حتى تبتلع طعم "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فهي تعلم جيدا بأن نجاح واشنطن في تحطيم روسيا، وتحجيم أوروبا في نفس الوقت، من خلال الاستمرار في النفخ بالحرب في أوكرانيا، يعني بأن الدور سيكون تاليا على الصين، بل إن الأميركيين يجمعون على أن الصين هي الدولة الوحيدة حاليا في العالم التي يمكنها أن تهزم الولايات المتحدة، بمعنى أن تزيحها عن عرش العالم، وأن تغير النظام العالمي من نظام أحادي القطب الأميركي، إلى نظام متعدد الأقطاب، تكون فيه الصين بالذات مع الولايات المتحدة، وربما الاتحاد الأوروبي، وكذلك روسيا شركاء في ذلك النظام، حتى لو كان التنافس بينهم على أشده، وهذا حدث في ظل الحرب الباردة، حين كان العالم ثنائي الأقطاب.
واضح كذلك بأن بايدن بتعريجه على بنوم بنه، يسعى إلى خطب ود نمور آسيا، وكانت الولايات المتحدة تولي اهتمامها الأول بدول الشرق الأوسط، حين كانت تلك المنطقة تعد أهم مناطق العالم، بسبب ثروتها النفطية، أما، اليوم، فإن الاقتصاد العالمي يرتكز إلى واحدة من أهم قواعده الكونية، وهي شرق آسيا، وأميركا دائما تسعى إلى حيث تكون الثروة، كذلك يحاول بايدن بالطبع أن يحكم الخناق على روسيا بعزلها، وهو رغم نجاحه الفوري بضم أوروبا لحربه ضد روسيا، ومع قطع خط تصدير الغاز الروسي لأوروبا، فشل في عزل روسيا، ليس سياسيا وحسب ولكن اقتصاديا كذلك، وكانت الصين أهم دولة في هذا الصدد، نظرا بالطبع إلى ثقلها الاقتصادي ووزنها السياسي على صعيد العالم.
والجميع يعرف بأن بمقدور روسيا والصين معا تحدي أميركا، بل وفرض النظام العالمي متعدد الأقطاب عليها، لكن ذلك يشترط تحالفا قويا وثابتا بين الدولتين، يكون على درجة التحالف القائم ما بين أميركا وأوروبا، وحين ذلك سينقسم العالم رسميا إلى شرق وغرب، كما كان ــ تقريبا، أيام الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
وبالعودة إلى قمة العشرين، حيث تبدو مشاركة موسكو حائرة بين مقاطعة واشنطن، وتحالف بكين، تنعقد القمة في بلد ينمو اقتصاديا بشكل متزايد، وله ثقل في آسيا والعالم الإسلامي، والقمة تضم أهم 20 اقتصادا عالميا، في ظل حرب اقتصادية عالمية، حيث التحالفات تنعقد ليس وفق انسجام الأيديولوجيات، ولكن وفق توافق المصالح، وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن نفهم كيف أن بايدن الذي أعلن قبل أن يصل بالي عن تطلعه للقائه الرئيس الصيني، هو نفسه الذي كان قد أعلن من قبل بالطبع بأنه لن يلتقي بوتين، والأغرب أنه لن يلتقي محمد بن سلمان!
كما أن مواقف تركيا العضو في "الناتو"، وكذلك السعودية تجاه المطلب الأميركي قبل أسابيع بعدم الالتزام بـ"أوبك" وزيادة ضخ النفط، والإمارات بعد زيارة محمد بن زايد لموسكو قبل أسابيع قليلة، كل ذلك يؤكد بأن ليس هناك سياسات ثابتة، لا مع واشنطن ولا ضدها! فعالم، اليوم، ليس هو عالم الحرب الباردة، حيث كانت التحالفات والعلاقات دائمة ومبنية على أساس توافق الأيديولوجيات.
وهكذا، على الأغلب، أن قمة العشرين في بالي ستتحول إلى ما يشبه المهرجان السينمائي، حيث قد تشهد عقد اتفاقيات وإقامة علاقات اقتصادية عابرة للحدود والقارات، أي إلى سوق عالمية، تشبه سوق عكاظ قديما، وهنا يكون السؤال الجوهري، حول ما يمكن لواشنطن أن تقدمه لبكين، حتى توافق على عزل موسكو، غير التهديد والوعيد، وأميركا التي تعودت على نهب ثروات الآخرين، ماذا يمكنها أن تمنحهم غير الخوف، مقابل تحالفهم معها، أما روسيا فلديها الغاز والنفط، اللذان تحتاجهما الصين والهند، وليس أوروبا فقط، وقد بدأت بضخهما فعلا، وليس قولا أو وعدا فقط، للجارتين بأسعار منافسة، ولهذا فإن أغلب الظن، بأن حرب بايدن مع الصين وحتى مع روسيا، لن تكون مثل حربه مع ترامب والجمهوريين، بمعنى أنه لا يمكنه الفوز بها بمجرد رفع شعار انتخابي، وليس قطعا بمجرد الإعلان عن رغبته في تحديد الخطوط الحمر، كما قال وأعلن وهو في طريقه للقاء الرئيس شي.
[email protected]
أضف تعليق