مع كل أزمة جديدة يتعزز القول بأن الدول المتنفذة لا تتحرك لحل أية أزمة دولية من أجل تحقيق قيم العدل أو المساواة أو الحرية، مهما بلغت الأثمان الإنسانية والأخلاقية؛ بل ما يحركها للأسف هو غالباً خوفها على مصالحها الضيقة، والمؤسف أكثر هو أنها تتفنن في توظيف هذه القيم كشعارات تجميلية لتغطية سوء أفعالها، وما يؤكد ذلك هو أن هدف الحكومات المنتصرة من تأسيس الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 كان لحفظ الأمن والاستقرار العالمي لتثبيت مكتسبات انتصارهم، ولم يكن أصلاً لتحقيق العدل والمساواة، وهنا تبقى قضية فلسطين التي ما زالت تبحث عن العدالة الدولية منذ عقود طويلة خير شاهد ودليل على ذلك، مما لا يترك خياراً أمام الشعب الفلسطيني الذي ضحى كثيراً من أجل الحرية والاستقلال سوى توحيد الجهود واستثمار كل ما هو متاح للتأثير في هذه الدول من باب مصالحها بعقلانية ودهاء بعيداً عن العاطفة والاندفاع.
بالطبع تشكل كل أزمة محكاً حقيقياً لقدرة أي شعب على استثمار كل أدوات المساومة الذكية الخشنة الضاغطة والناعمة الجاذبة لتحقيق الأهداف العامة، وإيجاد الحلول الابداعية التي تمنع خروج تلك الأزمة عن السيطرة أو الوقوع في فخ الخصم للقبول بتنازلات كبيرة مؤلمة. هذا بالطبع مرهون بقدرة أي شعب بكل مكوناته على تشخيص تلك الأزمة المركبة والمعقدة بدقة وتفكيكها لفهم ماهيتها وعناصرها ومكوناتها والأسباب الحقيقة وراء افتعالها أو حدوثها، واعادة تركيبها من جديد بشكل يتيح تحديد نقاط القوة والضعف للتنبؤ بشكل علمي ومنطقي بثمن استمرارها وبمخاطر تطورها وانتشارها، وبناءً على التشخيص الجيد، يمكن حينذاك تحديد البعد الاستراتيجي لتلك الأزمة وبالتالي وضع الخطط والسياسات اللازمة للتعامل مع تلك الأزمة، بفعالية بناءً على خطوات تكون محسوبة زمنياً ومنظمة ادارياً وواقعية عملياً.
لكن يبقى نجاح أي شعب، خصوصاً عندما لا تكون موازين القوة في صالح قضاياه، مرهون بوحدة مكوناته، ووضوح أهدافه، وتناغم برامجه ونشاطاته، ومنسوب وعيه اللازم للتمييز بين ما هو استراتيجي وتكتيكي وبين ما هو أساسي وثانوي، ليسهل على قيادته اتخاذ قراراتها وخطواتها بثقة واقدام، خصوصاً التكتيكية منها، لأنها أحياناً تبدو غريبة في الظاهر وغير مفهومة للبعض في حينه، ومغزاها يتطلب وقتا ليظهر على المدى المتوسط أو البعيد، وربما يكون هذا من أبرز المعضلات التي يعاني منها الشعب الفلسطيني في كل محطة وطنية أو اقليمية أو دولية حرجة، رغم ارتفاع مستوى الوعي وعمق الانتماء وصلابة الارادة وعظمة التضحيات. يضاف الى ذلك غياب التكاملية والتناغم بين الخطاب السياسي والعمل النضالي الميداني، فبعض الأطراف للأسف تعتمد برنامجها الخاص دون الاهتمام بالبرنامج السياسي الفلسطيني الرسمي، الأمر الذي يدخل المشروع الوطني في الكثير من المآزق الدولية والسياسية ويفقده خاصية وجود برنامج عمل مشترك استراتيجي شامل ومتكامل مقبول وطنياً واقليمياً ودولياً.
وبغض النظر عن أية اعتبارات، يتعين أن تشكل المصلحة الوطنية دائماً دليلاً لعمل جميع مكونات الشعب الفلسطيني، ولا يجوز لأي حركة أو حزب أن يمارس دوراً سلبياً لصالح أية جهة أجنبية، وهذه بالضبط هي نقطة الفصل بين أن يشكل هذا المكون سنداً للوطن أو أداة خارجية للعبث والتخريب. من المهم التأكيد دائماً بأن القضية الفلسطينية ليست قضية تنظيمات أو حركات أو أحزاب أو أفراد وإنما هي قضية وطن وحقوق شعب سياسية وقانونية وانسانية يلزمها سياسة وطنية واحدة متماسكة وخطاب سياسي واعلامي موحد منطلق من هدف واحد لضمان عدم التناقض، فمن البديهي أن تشتمل معالجة أي أزمة على أساليب تكتيكية عند التطبيق العملي مثل، متى وأين وكيف نستخدم هذا الأسلوب أو ذاك؟ أي متى نخوض غمار التحدي والمواجهة أو اللين والمرونة؟ عملية النضال الناجحة هي التي تكون مرنة لتشتمل على كل الأساليب المتاحة، وأي عملية جامدة وأحادية في التفكير والنهج ولا تأخذ بالاعتبار التطورات الداخلية والخارجية تفتقر الى الديمومة والاستمرار ونادراً ما تنجح.
بالطبع من البديهي أن ينطلق العمل بكل أشكاله من رؤية واضحة وأهداف محددة من خلال آلية دقيقة وشبكة اتصال منظمة، لضمان صهر الاختلافات والاجتهادات الشرعية الموجودة وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وفق الظروف الزمانية والمكانية الملائمة لضمان تحقيق الفائدة القصوى، وهنا تتجلى قدرة الأطراف كافة في التوافق ولو مرحليا على رؤية موحدة واسعة الأفق لمختلف جوانب الحياة، تضمن التوازن بين حاجات الشعب، ومتطلباته وقضاياه ومكاسبه وعلاقاته الداخلية والخارجية وارتباطاته واختلافاته، علاوة على بيئته وقدراته وظروفه وما يمكن أن يعترض هذه الظروف من عناصر قوة وثغرات، كما يتجلى صدق الانتماء الوطني لدى كل الأطراف المعنية عندما تنجح في تحقيق التناغم في صياغة برامجها وتنسيق أعمالها المختلفة واستثمار كل امكانياتها لتحقق انجازات ملموسة، وفق حسابات دقيقة مستندة الى معايير منطقية وواقعية وموزونة حتى لا يطغى جانب على جانب أو أن يتعارض عمل جزء مع جزء أخر، وهذا يعني أنه يتعين على كل من يتصدر العمل السياسي أن يتقن تحليل الخارطة الجيوسياسية والعسكرية بشكل دقيق ولا ينزلق الى المواجهة بناءً على عواطفه أو رغباته أو وعود وهمية، وهو الذي يبني قرارته وفق معادلة التوازن الاستراتيجي، ويظهر مهارة في القفز بخفة من خلال حلقات النار المشتعلة دون ان يحترق، أو يحرق من معه، ولا يضع مقدرات بلده ومصير شعبه تحت رحمة أي طرف بأي ثمن، ولا يدخل ملعباً لا يتقن اللعب فيه ولا يستطيع ضبط مجرياته أو تحمل تبعاته، بل يسعى دائماً الى جر خصمه الى ملعبه الذي يجيد اللعب فيه ويفهم كل تفاصيله.
واليوم لا شك بأن شدة الأزمة الأوكرانية قد صرفت الأنظار مؤقتاً عن القضية الفلسطينية، لكن من المتوقع أن يكون لمضاعفاتها وتفاعلاتها أثر كبير على هذه القضية على المديين القريب والبعيد، خصوصاً في حال تبدلت موازين القوى الإقليمية والدولية وتشكل عالم جديد متعدد الأقطاب، وربما تندرج التحركات الدبلوماسية الحالية والقادمة في هذا الإطار. كلنا أمل أن يفتح ذلك أفقاً أفضل للقضية الفلسطينية ينقلها من حالة الجمود الى الفعل الايجابي والنشاط المثمر. المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تتطلب أن يعمل الجميع سويا خلف القيادة السياسية لاستثمار المتغيرات الدولية الجيوسياسية والاستراتيجية المتوقع حدوثها ببعدين: أولهما العمل على فضح ازدواجية المعايير التي تعامل بها المجتمع الدولي مع قضية أوكرانيا قصيرة الأمد، مقارنة مع قضية فلسطين طويلة الأمد، من حيث الدعم المتمثل بحشد كل الامكانات المالية والعسكرية والدبلوماسية والاعلامية وحتى الثقافية والفنية للضغط غير المسبوق على الطرف الأخر، وثانيهما العمل على استثمار الجو العام الذي خلقه الغرب خلال هذه الأزمة والمتمثل برفض احتلال أراضي الغير بالقوة وعدم المساس بقيم الحرية والديمقراطية وسيادة الدول.
خلاصة الأمر، القضية الفلسطينية اليوم في الميزان ونحن من يحدد ثقل هذا الميزان أو خفته، فالمطلوب توظيف كل قول أو فعل بعقلانية في مكانه وزمانه المناسب، وتوزيع الأدوار سياسياً وميدانياً بشكل دقيق ومتوازن ومسؤول، بعيدا عن الفئوية أو الجهوية أو المصالح الشخصية، لتجاوز الأزمات بأفضل النتائج الممكنة وبأقل الخسائر المحتملة، وللخروج من الدوران في دائرة مفرغة تكاليفها باهظة ندفعها من المصالح الوجودية والسياسية للشعب الفلسطيني. كلنا أمل أن يلتزم الجميع بخطاب سياسي واحد وبرنامج عمل وطني شامل متكامل يوظف كل الأدوات والإمكانات المتاحة لتحقيق الهدف الأسمى بالحرية واقامة الدولة المستقلة بعاصمتها الأبدية القدس الشريف.
[email protected]
أضف تعليق