بقلم: مصلح كناعنة
هذه إحدى الروايات المبكرة لسحر خليفة، ألـفتها في خِضمّ الانتفاضة الأولى عام 1990، وهي بزخمها السياسي شبيهة بروايتيها السابقتين "الصبّار" و "عبّاد الشمس".
ولا أعتقد أنني أبالغ حين أقول أنَّ سحر خليفة تتربع على عرش الرواية الفلسطينية وتتنافس بجدارة مع أفضل الروائيين والروائيات العرب. وإذا كانت فدوى طوقان هي شاعرة فلسطين الأولى، فلا غرو أن تكون ابنة مدينتها سحر خليفة هي روائية فلسطين الأولى.
سحر خليفة هي سيدة نابلسية حصلت على البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بيرزيت، وأشغلت مناصب إدارية وتدريسية مختلفة في بيرزيت لثلاثة أعوام، ثم تزوجت زواجاً تقليدياً وبعد 13 عاماً من المعاناة في سجن الزوجية قررت أن تحصل على حريتها وتكرس حياتها للعلم والعطاء الأدبي، فسافرت إلى أمريكا حيث حصلت من جامعاتها على الماجستير والدكتوراه، ثم عادت إلى الوطن وألفت حتى الآن عشر روايات تُرجمت كلها إلى عدد كبير من اللغات ونالت عليها جوائز عربية وعالمية.
هناك موضوعان لا يفارقان كتابات سحر خليفة، وهما دائماَ متداخلان ومتشابكان بحيث لا تستطيع أن تفصل أحدهما عن الآخر: شعب مُحتَل ويقاوم، وامرأة مُحتلة وتقاوم ضد هيمنتين؛ هيمنة الاحتلال الصهيوني المتغطرس، وهيمنة الثقافة الذكورية المستبدّة. وفي رواية "باب الساحة" يتجسد هذا التداخل بأبهى صوره في رد فعل المرأة على اختزال أنوثتها إلى رمز وطني للأرض والكرامة، فتصرخ بسخرية لاذعة:
"اصْحَ يا شاطر! أنا لستُ الأم ولستُ الأرض ولستُ الرمز، أنا إنسانة، آكل وأشرب، أحلم، أخطئ، أضيع، أموج وأتعذب وأناجي الرّيح. أنا لستُ الرمز، أنا المرأة."
ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن تكون أول رواية لسحر خليفة هي "لم نعُد جواري لكم" وآخر رواية هي "حبي الأول".
وسحر خليفة واقعية جداً في رواياتها، إلى حد أنك تكاد تسمع أصوات الباعة وتشم روائح البهارات في سوق نابلس، وإلى حد أنك لا تنتبه إلى أنك تقرأ كتاباً إلا حين تنتهي من القراءة وتُغلق الكتاب. وهي ليست فقط واقعية في وصفها للأماكن والأشخاص والأحداث، وإنما تتجلى واقعيتها كذلك في تقمُّص اللهجات في كلام الناس، وفي المزج البديع بين الفصحى والعامية في أوصافها وسردياتها؛ خذ مثلاً قولها: "أما المسكينة أم عزام فتكاد لا تَمونُ على شيء حتى ولا على ضُمَّة بقدونس"، أو قولها: "لا تقل لي الوطن ولا التاريخ! يعني مين الوطن غير انتَ وأنا، إحنا يا هالناس؟" أو هذا الوصف المذهل: "وهبّتْ نسائم الخريف في الزواريب محمَّلة بعبير القهوة وما تبقّى من روائح شتّى ظلت تتكدس حتى الظهر، حتى الإغلاق. فلافل وزلابية وتعمالق وخضار الموسم وتوابل وشومر وبصل ولحوم طرية لذبائح معلـّقة فوق الرؤوس على الأرصفة."
وسحر خليفة تتشابه في واقعيتها مع معظم الروائيين الفلسطينيين، غسان كنفاني وسميرة عزام ويحيى يخلف مثلاً، ولكنها في واقعيتها تتفوَّق عليهم جميعاً في أمر واحد تتميز فيه، وهو أنَّ تسارُع الأحداث في الواقع يرافقه ويجسده تسارُع الكتابة في النص، وقراءة النص الكلامي الذي تصوغه سحر خليفة لوصف بعض الأحداث المتسارعة يقطع الأنفاس ويصيبك باللهاث. إليكم هذا المثال:
"نزلَ الجنود، لمَعَت خوذات، احمرَّت الشمس فوق الزيتون، هرعت الفلاحات بخوف نحو الأكياس. مالت الأجساد تحت الأحمال. أفسحنَ الطريق للخوذات والشباب الطائر والطلقات. أقعت واحدة، وقفت أخرى، صاحت مجموعة: "هناك، مِن هناك، إوعوا من الجيش!" وصخور تكرُج وحجارة، وشبيبة تركض في تموُّج، "يالله، عليهم!" وانقذفت عبوة غازية، ثم أخرى، وأخرى وأخرى. ثم المطاط ثم الدُّمدُم، وذخيرة حيّة وبواريد... لحظات وتعثّر أول شاب، أصيب في عنقه فهوى يتدحدل كالصخرة فوق الهضبة."
في أحد مساقات علم الإنسان في جامعة بيرزيت سألتُ طلاب المساق إن كانوا يعرفون مَن هي سحر خليفة، ومن بين 27 طالباً وطالبة من مختلف محافظات الضفة الغربية، وفي السنة الثالثة من دراستهم الجامعية، لم يكن أحد قد سمع بها أو يعرف من تكون! أرجو ألا يكون هؤلاء الطلاب والطالبات يمثلون مُجمَل الجيل الفلسطيني الشاب، ولكني أعتقد أنهم ليسوا بعيدين جداً عن ذلك، وهذا أمر مؤسف.
[email protected]
أضف تعليق