استيقظ على جلبة البائعين وأبواق السيّارات وهو يتمطّى مُحارباً هيمنة النعاس وضوء الشمس الذي تسلل من خلال ستار شباكه الباهت المحتضر, وقام متثاقلا موقنا ألا جدوى من صَحوِهِ القسري فلا فرق بين الأمس واليوم ولا معنى لهذا الزمن المزيّف الذي تختصره عقارب الساعة القابعة المتوحّدة في جدار العدم الذي رسم معالم واقعه, فزمنه الحقيقي الذي تجلى يوما في دقات قلبه ونبض احساسه وزهو آماله أضحى بخساً غير ذي قيمة.
كأيّ يوم اعتيادي, غسل نصف وجهه وارتشف بقايا قهوة الأمس من كوبه المتسخ بعد أن طرد عنه الذباب, وبعد أن تيقن من فراغ ثلاجته من أي طعام لبس ثيابه التي طغت عليها خطوط الغبار والقذارة على عجلٍ وانطلق نحو المقهى ليرتشف قدحاً من الشاي الرخيص ويلتهم نزراً من الطعام الرخيص. في المقهى تجد كل شيء رخيصا, فالوقت رخيص, و الكلام رخيص, والضحك رخيص. ما أن تحتلّ مقعدا, حتى تأتي الحياة إلى مائدتك, ترِدُك آخر الأخبار, وآخرُ الإشاعات عن خيانة فلانة وتورط فلان وإفلاس آخر ومن تطلقت, أو أجهضت أو عثرت على "الحجاب" الذي كان سبب عقمها طيلة السنين !!.
وعندما شرع ينفث الدخان من أرغيلته التي تناغمت ثرثرتها مع الضجة التي ملأت دماغه, أغمض جفنيه وبدأ يتساءل: هل أنا معدود على الأحياء ؟ وهل تقاس حياتي بزمن الساعات و المنبهات ومعايير الزمن المبتذل والمتكرر ؟
وتتسلل اللحظات بخفة بين الموائد المزدحمة وسُحُب الدخان التي تتسامى من غابة الأراغيل الدافئة, وشريان الحياة ينشط كلما صفق زبون في ركنه طالبا قهوة على الريحة, وقد ينسى الطلب ويميل بجسده على المقعد وتتراخى ذراعاه ويغط في شبه غيبوبة, ولا تعرف أنه ما زال على قيد الحياة إلا عندما تطرد يده الذباب عن اللعاب الذي يسيل من شدقيه بآليّةٍ وبمنتهى العفوية.
والوقت يمضي متسارعاً والنهار ينتصف ويبدأ المقهى ينفضّ لتتحوّل الطبيعة النابضة إلى طبيعة ميتة, كي يترك روّاد المقهى الكراسي مصطفة في شبه دوائر, كل منها كأنه يحملق بالآخر, وعلى ظهر كل مقعدٍ بقعة واضحة من الرماد والزيت والعرق وعلى الأرض آثار الأحذية المغبرة والموحلة وأعقاب السجائر, بينما الأراغيل التي هجرها الزبائن لِتوّهِم وهي تعتمرُ جمراتها ما زالت تنفث خيوطا من الدخان المتراقص بخفة, والصّمت يلفّ المكان, وعلى الحائط تتدلى لوحة كبيرة للمسجد الأقصى وأخرى مكتوب عليها بالخط الديوانيّ: "هذا من فضل ربي". وإلى جوارها لائحة بأسعار العصائر و السحلب والقهوة و الشاي و المعسل ...
وتوجّه هو إلى شقته الحقيرة, ومشى في الشارع متباطئا هو ينظر إلى ساعة الميدان مبتسما مزدرياً تلك الحركة السخيفة الدؤوبة لعقاربها التي لم تعد تعني شيئا لزمنه الذي أصيب يالشلل وتوقفت حركته منذ أمد بعيد.
[email protected]
أضف تعليق