لطالما استوقفتني الاحتفاليّات الشائنة لعرب الانتكاسة باستقلال اسرائيل "بأجواء مميزة" ترصدها وتوثقها المواقع الاخبارية بحضور مندوبي السلطة, ووسط التصفيق والترحيب والتهليل وابتسامات العمالة المصطنعة التي لا تخلو من الوقاحة, وجوهٌ كدرة يربطها بعنصر الحياء ما يربط مومس الشوارع بعناصر الثوران والتحرر في أشعار لوركا أو نيرودا. كيف يجرؤ هؤلاء على التلاعب بشباننا اللذين يبيتون وهم يقتاتون على أحلامهم الصغيرة وأفراحهم المؤقتة كوميض الشهب في السماء, ويستيقظون على شتات من اللجوء في قلب وطنهم ؟!.
لقد اندفع شلال متدفق من التساؤلات في ذهني وأنا أشهد هذه المشاهد السخيفة لعلي أستشفّ تفسيراً لما يحدث. كيف يحتفل جيلٌ تفرّد في ضياع هويته وذاته وكيانه الذي استعصى أن تكون له معالمه المحددة, بحيازة بطاقة زرقاء لا يمكن لها أن تكون هويته الحقيقيّه ؟. جيل مأسور حائر يرتقي سلالم وَهْمٍ لا تُفضي إلى شيء, هائم في مسيرة تيهٍ غير ذات نهاية بأرض الميعاد, يتكئ على نجمة داوود ووعد بلفور وحلف الناتو ومعاهدات سايكس بيكو وكامب ديفيد والجيش الذي لا تقهره آلهة الاولمبوس, فيصحو صفر اليدين على واقع مشوّه من النخاسة يواجهه عند عتبة مشغله ومالك قوته اليهودي الذي يتعمّد حتى ألا يلفظ اسمه صحيحاً فيخرج على لسانه مشوهاً كنوع من التحقير والاستخفاف !!.
تلك البطاقة الزرقاء هي واقع مؤلم مفروض تلقيناه بين إقدامٍ أو إحجام وخوفٍ أو تردد, استسلمت له أجيال سابقة وتوارثته أجيال لاحقة من اللاجئين على هذه الأرض, لم يدركوا بعد حجم الضياع والخسارة والمعاناة إلا من خلال رؤيتهم القاصره, وفي خضم الرؤى غير المحسومة يكتفي هذا الشعب المسحوق المتفرّد بنكبته بصفة لاجيء في وطنه, لاجيء مع بطاقة زرقاء, لكن بدون هوية !.
******
وعلى "شرف" استقلال اسرائيل وصخب الأبواق, سأقف بدوري حداداً على ذكرى كارثتي وبطولتي: لن أنسى شهداء يوم الأرض ولن أنسى ثلاثة عشر شاباً بطشت بهم دولة "كل مواطنيها" (عذراً لضحكتي الهستيريه !!) صاحبة حقوق نشر وتوزيع البطاقات الزرقاء, رمياً برصاص أبطالها العتاة.
أيتها الأرض العربية الملعونة التي ما فتئنا نموت من أجلك: إفتحي مقابرك وأطلقي صرخة الأحرار من أحشائك! دعي كل ثاكلة تجمع عظام عزيزها لتخبئه في جراب تنسجه من خيوط الشمس, وافسحي الطريق لمسيرة المتمردين التي لن يلطخها حضور العملاء. لماذا تبتلعين كل ثائر ومحارب, هل لأننا نحبك بعنف وجنون, لحدّ إضرام النار في سهولك وروابيك, على نمط حب نيرون لروما, الحب الذي لا يفقه كنهه إلا عشاق الأرض المتهمين دوما بجنون الارتياب !؟. يا أرضاً كلما جاعت أكلت عشاقها, لا أقوى على النوم فمواسم الموت قد طالت, وعيون الشهداء تلاحقني حتى عندما أتوارى خلف متاريس أحلامي, وفي قلب أثير الصمت الذي يخنق غرفتي المعتمه, ووراء خشبة المقصله فلا أجد مفرّاً سوى ركن ساكنٍ في المقبرة, أناجي فيه شواهد القبور, وابكي بدموع ساخنة كالأطفال وطني الذي لا وجود له الا في علبة تبغ جدي الصدئة, وفي نشرة الأخبار.
[email protected]
أضف تعليق