تلألأُ حبّات المطر الرقيقة، تعكس في جوفها حكايات كثيرة عفوية، يسطرها قلب إنسان كبير محب، على إيقاع سقوطها كنغمات همس كلامك العذب، تزرع بذور الأمل والتجدد، كما تروي قطرات المطر الزرع بالأرض العطشى.
أهداني مشكورًا الزميل الشاعر، والأديب، ابن بيت جن الجليلية الشّامخة، نصر خطيب ديوانه الشعري الرائع، الذي يحمل اسم عنوان مقالي هذا، وكتب في الإهداء: "هدية للأخ والصديق الكاتب الرّاقي معين أبو عبيد على أمل أن يترجم إلى ذكرى طيبة".
يستوحي الكاتب أفكاره، إلهامه وخياله العميق من طبيعة قريته الخلّابة، التي يرى من خلالها روعة الحياة وسر الوجود، ويعبر من خلالها عمّا تجيش به نفسه من أحاسيس، وما يعتمل في أفكاره ورائحة الزعتر والمرامية "الجعساس"، وبقية الأزهار البرية بمزيج من الألوان، وبسحر هواها العليل، ليكتب قصائده بحلّة زهية معبرة تدخل إلى القلب دون إذن، فتدغدغ المشاعر وتجذبك إليها دون أن تشعر كساحر.
نعم، القراءة تمنحنا مكانًا آخر، نذهب إليه عندما نضطر للبقاء في أماكننا، لنغوص عميقًا في بحار العلم والمعرفة، فنبني ملجأ نفسيا يحمينا من غدر الحياة ومآسيها، هذا ما شعرت به خلال قراءتي الكتاب الذي أمتعني بصفاء روحه، عمق حروفه، رهافة حسّه، وثنايا كلماته التي تفوح منها روح إنسانية سامية.
هذه المادّة الجياشة الزاخرة بعمق، معانيها وأبعادها تتسم بالجمالية التعبيرية بنغمة وإيقاع جذّاب، سلس تدل على كاتب متمكن، ذي رؤية وخلفية حضارية ثقافية، وقدرات لا تعرف الحدود، وابتكار مشهد درامي حواري فكري نير، يبحر في عوالم لا تشبه عالمنا.
يخاطب كاتبنا البيت جني في ديوانه العديد من مرافق حياتنا ومجالاتها اليومية، ويوليها أهمية خاصّة كالوطن، الطبيعة، العطاء، الحب، المرأة، الإنسانية، الأبناء، ولم ينسَ مشاكل وهموم مجتمعه الآخذ بالتردّي وانتماءه إلى قريته، فلا يخفي قلقه من مظاهر التلوُّن، نكران الجميل وغياب العدالة الاجتماعية.
حقيقة، لم يكن من السهل أن أختار قصيدة من بين 114 صفحة ضمت دفتا الكتاب، بغلافه المميز والأنيق وعنوانه المعبر؛ لأن كل قصائده في غاية الإبداع، كتبت بوضوح صدق تعبيري، عفوية وتلقائية، وقد اخترت قصيدة بعنوان "بيت جن" التي تجسد حبه وانتماءه إلى قريته، ترابها، طبيعتها الخلّابة بأشجار الزعرور وثمارها بلونه الأحمر الغامق والاصفر، والسنديان الباسقة، رمز التمسك التي تتراقص وتتمايل كراقصة محترفة وكأنها تداعب وتخاطب الشاعر بلغة الصمت.
"أرتشف زغاريد الصباح، من عينيك المتيقظة
مع كل يقظة صباح، أكحل عيني
بنسيم صدحة، لأجمل لوحات الكون..
فتحصو بي الحياة على عبير اسمك
عندها تدغدغ صدري، رائحة الزعتر والبن
وأرتشف نسيم العطر من حنينك..
رحيقا ونورا، على خاصرة الفن..
لمست أنامل إبائك اسمي ..
كلمسة شيخ ، قاوم الأتراك والسن..
وصاح الهمس في أذن التاريخ
فسمر جسم العراقة يا بيت جن" .
لك الف همسة ثناء وتقدير
أدام الله مداد قلمك الزّاخر الذي أشعلت به شمعة في بحر العلم والمعرفة.
وإلى مزيدٍ من العطاء.
[email protected]
أضف تعليق